ثالثاً: مقدّمة

 

تستند الدساتير والقوانين الوطنية إلى مصادر اجتماعية وثقافية وعقائدية خاصة بالدولة ومجتمعها. إلا أنه ينبغي أيضاً أن تستلهم المبادئ والمعايير الدولية لحقوق الإنسان – الرامية إلى رسم سياسة حقوقية عالميّة موحّدة – مصدراً أساسياً وملزماً لها؛ والمعايير الدولية تُستخلص من مضمون المعاهدات والبروتوكولات والإعلانات والتوصيات التي تصدر عن منظمة الأمم المتحدة وأجهزتها المتخصّصة وجامعة الدول العربية والإتحاد الأوروبي وسائر المنظّمات الدولية والإقليمية.

 

إنّ واجب الدولة، في هذا المجال، لا يقتصر على الإحالة إلى المواثيق الدولية أو التصديق عليها، إنّما يقتضي عليها – فضلاً عن ذلك – أن تبذل ما في وسعها لإعمال تلك المواثيق عبر تعديل أو إلغاء النصوص التشريعية الداخلية أو استحداث تشريعات جديدة ومواءمة التشريعات الوطنية مع الإتفاقيات الدولية المصدَّق عليها من لبنان، بالشكل الذي يضمن فاعليّة وشموليّة تطبيق الأحكام الدولية. كما يقتضي عليها تخصيص الموارد اللازمة لتأمين تنفيذها بالتعاون والتنسيق مع القطاعين الأهلي والخاص؛ ولا بدّ أن يُرافق (أو يلي) ذلك صدور مراسيم وقرارات تطبيقية، وبعد ذلك، لا بدّ لكلّ من السلطة التنفيذية والسلطة القضائية وجمهور الشعب أن يلتزموا مضمون تلك النصوص وروحيّتها.

 

في ما يتعلق بلبنان، وإضافةً إلى الحماية الصريحة أو الضمنية الواردة في مواد الدستور اللبناني أو في القوانين والمراسيم والقرارات المرعية الإجراء، فإن الحالة التشريعية قد شهدت تطوراً بالغ الأهمية بفعل التعديل الدستوري في 21/9/1990 الذي أضاف إلى الدستور مقدمة جاء في الفقرة "ب" منها:

" لبنان عربي الهوية والإنتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتجسّد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات دون استثناء. "

 

تكمن أهمية هذا النص في أن المواثيق الدولية المعطوف عليها صراحة في مقدمة الدستور باتت تتمتّع بالقوة الدستورية الكاملة، على ما قضى به المجلس الدستوري في قرار مبدئي[1]. وإن إلتزام لبنان المواثيق الدولية، وفي مقدمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بصورة صريحة، يُعتبر إنجازاً تاريخياً، رغم حداثة عهد الدستور فيه، وهو أمر يجعل من لبنان جزءاً من الورشة العالمية القائمة – بدفع من منظمة الأمم المتحدة – والعاملة على تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات العامة في جميع البلدان وفي النظم القانونية التي تتبعها، وعلى تأمين الإعتراف والتقيّد الفعليين بها للجميع من دون تمييز؛ والأهم أن لبنان يلتزم، في هذا المجال، أن يخضع لمساءلة الأسرة الدولية.

 

ولكن، إذا كان النصّ الدستوري المذكور يمحض المواثيق الدولية، في المبدأ، قابلية التنفيذ التي تتّصف بها القوانين اللبنانية، إلا أنّه، ورغم أن الأحكام الدستورية تسمو نظرياً على القوانين العادية، فإن قيمتها في لبنان، هي معنوية ومبدئية أكثر منها فعلية، الأمر الذي يجعل المبادئ الدستورية غير ذي فاعلية مباشرة.

والجدير ذكره، في هذا المجال، أنّ المشترع اللبناني ضمّن قانون أصول المحاكمات المدنية نصّاً يغلّب أحكام المعاهدات الدولية على أحكام القانون العادي عند التعارض بينهما، وقد جاء في المادة الثانية من القانون المذكور ما حرفيّته:

"على المحاكم أن تتقيد بمبدأ تسلسل القواعد.

عند تعارض أحكام المعاهدات الدولية مع أحكام القانون العادي، تتقدم في مجال التطبيق الأولى على الثانية.

لا يجوز للمحاكم أن تعلن بطلان أعمال السلطة الإشتراعية لعدم إنطباق القوانين العادية على الدستور أو المعاهدات الدولية".

 

أ‌-        موقع حقوق الإنسان في الدستور اللبناني

أفرد الدستور اللبناني فصلاً كاملاً لتحديد حقوق اللبنانيين وواجباتهم (الباب الأول، الفصل الثاني)، وتضمّن في المواد 7 إلى 15، إلتزام الدولة اللبنانية بحماية عدد من حقوق المواطن الأساسية والحريات العامة، وخاصًة : المساواة أمام القانون لجهة التمتع بالحقوق المدنية والسياسية؛ الحرية الشخصية؛ حرية الإعتقاد والحرية الدينية؛ حرية التعليم؛ حرية إبداء الرأي قولاً وكتابًةً؛ حرية الإجتماع وتأليف الجمعيات. حيث تشكل هذه المواد الواردة في "حقوق اللبنانيين وواجباتهم" شرعة حقوق ومجموعة أحكام ذات قيمة دستورية.  

لقد جاء في مقدّمة الدستور الذي استقرّ اجتهاد المجلس الدستوري على اعتبارها جزءاً لا يتجزأ منه، وأن المبادئ الواردة فيها تتمتع بقيمة دستورية شأنها في ذلك شأن أحكام الدستور نفسه - أن " لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، دون تمايز أو تفضيل". هذا وقد نصّت مقدّمة الدستور صراحة على التزام لبنان بمواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

 

ب‌-      إلتزامات لبنان الدولية

1-      الصكوك الدولية المصادق عليها

ساهم لبنان بوضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 وانضم إلى اتفاقيات وبروتوكولات دولية عدة في هذا المجال نذكر منها:

·         إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.

·         الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1966.

·         العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية لعام 1966.

·         العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.

·         إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لعام 1979.

·         إتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984.

·         إتفاقية حقوق الطفل لعام 1989.

·         البروتوكول الإختياري لاتفاقية حقوق الطفل المتعلق ببيع الأطفال واستغلال الأطفال في البغاء وفي المواد الإباحية لعام 2000.

·         البروتوكول الإختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 2002.

·         الميثاق العربي لحقوق الإنسان (انضم إليه لبنان عام 2008).

 

وتشكل المعاهدات والاتفاقيات الدولية لدى لبنان جزءاً هاماً من التزاماته الدولية بحيث تسمو على القوانين وتتقدم عليها في التطبيق كما تلزم المحاكم بها.

 

2-      الصكوك الدولية غير المصادق عليها

ينبغي العمل على تصديق لبنان أو إنضمامه إلى العهود والمواثيق التالية، إستكمالاً لإلتزاماته بتعزيز وحماية حقوق الإنسان:

·         الإتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951.

·         البروتوكول الإختياري الأول للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 الخاص بإختصاص لجنة حقوق الإنسان بإستلام الرسائل من الأشخاص الذين يدّعون إنتهاك حقوقهم المدنية والسياسية.

·         البروتوكول الخاص بالإتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1967.

·         البروتوكول الإختياري الثاني للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1989، في حال الإتفاق على إلغاء عقوبة الإعدام.

·         الإتفاقية الدولية لحماية جميع العمال المهاجرين وأفراد أســرهم لعام 1990.

·         البروتوكول الإختياري لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لعام 1999.

·         البروتوكول الإختياري لإتفاقية حقوق الطفل المتعلق بإشتراك الأطفال في النزاعات المسلحة لعام 2000 (وقَّع عليه لبنان في 11/2/2002) . 

·         الإتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري لعام 2006 (وقَّع عليها لبنان في 6/2/2007).

·         إتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2006 (وقَّع عليها لبنان في 14/6/2007).

·         البروتوكول الإختياري لاتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2006 (وقَّع عليه لبنان في 14/6/2007).

·         البروتوكول الإختياري للعهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية لعام 2008.

 

ج- الإطار المؤسساتي لتعزيز حقوق الإنسان

اتخذت الدولة اللبنانية عددًا من الإجراءات والمبادرات التي ترمي إلى تحقيق حماية أفضل لحقوق الإنسان من ضمنها ما هو مؤسساتي وما هو تشريعي. فعلى صعيد هيكلية وزارة العدل، أعدّت الوزارة مشروع قانون يهدف إلى استحداث مديرية عامة لحقوق الإنسان. كما أن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي قامت بإنشاء قسم حقوق الإنسان في المفتشية العامة، وشكلت لجنة من ضباط قوى الأمن الداخلي للتخطيط الإستراتيجي وحقوق الإنسان.

كما تم إنشاء اللجنة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية في العام 1995، عملاً بقرارات المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين، وتم إنشاء المجلس الأعلى لحقوق الطفل في العام 1994 في إطار وزارة الشؤون الاجتماعية، والهيئة الوطنية لشؤون المعوّقين.

وتأسست اللجنة النيابية لحقوق الإنسان ضمن مجلس النواب اللبناني، وهي تقوم بالعمل التشريعي والرقابي ودراسة مشاريع واقتراحات القوانين المحالة إليها من قبل الحكومة والنواب، ورفع التقارير والإقتراحات بشأنها بهدف تعزيز حقوق الإنسان في لبنان مدنيًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. وقد قدمت اللجنة في شهر تشرين الثاني 2011 اقتراح قانون يرمي الى إنشاء هيئة وطنية لحقوق الإنسان وفق مبادىء باريس.

د- التعاون مع آليات حقوق الإنسان

يستضيف لبنان في إطار التعاون مع آليات حقوق الإنسان المكتب الإقليمي للمفوض السامي لحقوق الإنسان. وبالرغم من أن لبنان لم يقم بتوجيه دعوة مفتوحة لكافة المقررين الخواص والمكلَفين بولايات في إطار حقوق الإنسان، إلا أنه منفتح ومستعد للتعاون مع أي من المقررين الخاصين الراغبين في زيارته. وقد استقبل مؤخرًا عدداً من المقررين نذكر منهم: المقرر الخاص المعني بالجوانب المتعلقة بحقوق الإنسان لضحايا الاتجار بالبشر وخاصةً النساء والأطفال، السيدة سجما هدى التي زارت لبنان في شباط 2005، ولجنة التحقيق المعنية بلبنان بناءً على قرار مجلس حقوق الإنسان في دورته الاستثنائية الثانية التي انعقدت في 11/8/2006 حول "الحالة الخطيرة لحقوق الإنسان في لبنان التي سببت نشوءها العمليات العسكرية الإسرائيلية". كما استقبل لبنان، ما بين 24/5/2010 و 2/6/2010، اللجنة الفرعية لمناهضة التعذيب، وأمّن لها الدخول إلى كافة أماكن الإحتجاز التي اختارتها واستقبل في شهر تشرين الأول 2011 المقرر الخاص المعني بأشكال العبودية المعاصرة، السيدة جلنارا شاهينيان.



[1]  المجلس الدستوري، قرار رقم 2، تاريخ 12/9/1997، الجريدة الرسيمة، العدد 44، ص 3202، وقد ورد في حيثياته: "وبما أن المبادئ الواردة في مقدمة الدستور تعتبر جزءاً لا يتجزأ منه وتتمتع بقيمة دستورية، شأنها في ذلك شأن أحكام الدستور نفسها".