ينقسم الرأي حول قوانين أصول المحاكمات الجزائية بين مؤيد للأمن على حساب الحريات العامة وحقوق الإنسان وبين مجاهد لعدم المس بهذه الحقوق والحريات أياً كانت الأسباب.

فالفريق الأول يعتبر أن توفير الأمن للمجتمع يتطلب منح صلاحيات واسعة للهيئات التي تتولى التحقيق وملاحقة مرتكبي الأفعال الجرمية ولو تم ذلك على حساب الحريات العامة وحقوق الإنسان الأساسية.

أما الفريق الثاني فيحرص على التوفيق بين تأمين احترام حقوق الإنسان والحريات التي يتمتع بها ومقتضيات الحفاظ على النظام العام.

 

I-     الوضع القانوني

 

أولاً: التشريعات الدولية

أولت الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، إهتماماً خاصاً بحقوق الإنسان في مجال العدالة الجنائية. كما صدر العديد من المبادىء والقواعد الإرشادية الخاصة بإستقلال القضاء والمحاماة، وقواعد السلوك الخاصة برجال إنفاذ القانون في معاملة المعتقلين والسجناء، وقواعد إستعمال القوة والأسلحة النارية، في توازن تام بين ضرورات حفظ الأمن وسيادة حكم القانون والحرص على حقوق المواطنين المخالفين للقانون وسلامتهم وأمنهم، كل هذا بدءاً من التوقيف والتحري والتحقيق وإنتهاءً بآخر مراحل التقاضي.

فصدرت على الصعيد الدولي إتفاقيات وتوصيات وبروتوكولات عدّة ترمي إلى تكريس التوازن بين دور السلطة في حفظ الأمن من جهة، وبين مجموع الحقوق والحريات العائدة للفرد الذي يتعرّض لتحقيق أو ملاحقة جزائية، والتي لا يجوز المساس بها مهما كانت الظروف، من جهة أخرى.

فأكدت المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على مساواة الجميع أمام القانون، والحق في المحاكمة العادلة أمام محكمة مستقلة مفتوحة، ومبدأ افتراض البراءة، وضرورة إخطار المتهم بالتهمة الموجهة اليه، وإعطائه الوقت الكافي لإعداد دفاعه، ومحاكمته دون تأخير وحضورياً، وألا يكره على الشهادة في حق نفسه، وحقه في الإستئناف، ومنع تعريضه للمحاكمة أكثر من مرة في التهمة عينها.

واعتمد مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود في هافانا في 7/9/1970 المبادئ التوجيهية لدور النيابة التي نصت على شروط الكفاءة والنزاهة والمقدرة في من يختارون لشغل وظائف النيابة العامة، ووجوب أداء واجباتهم وفقاً للقانون وبإنصاف وسرعة، مع احترام وحماية كرامة الإنسان، وأداء وظائفهم دون تحيز وحماية المصلحة العامة والإمتناع عن الملاحقة إذا تبين أن التهمة لا أساس لها. كما نص هذا المؤتمر على المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين التي تعتبر أن الحماية الكاملة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية المقررة لجميع الأشخاص، تقتضي حصول جميع الأشخاص على خدمات قانونية يقدّمها مهنيون قانونيون مستقلون. كذلك نصت مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الإحتجاز أو السجن التي اعتمدت بموجب قرار الأمم المتحدة 43/173 تاريخ 9/12/1988 على نصت على مبادئ تتناول أهمية استحصال الشخص الملاحق على مساعدة محامٍ، وعلى عدم جواز الإحتجاز إلا بأمر من السلطة القضائية.

كما كرست المدونة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين التي اعتُمدت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 34/169 تاريخ 17/1/1979، المبادئ التي ترمي إلى التوفيق بين عمل الموظفين المذكورين وحماية حقوق الإنسان وأبرزها الحفاظ على حقوق الإنسان لجميع الأشخاص أثناء التحقيق وعدم استعمال القوة أو التعذيب.

واعتبرت مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية المعتمدة بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 40/32 تاريخ 29/11/1985 و40/146 تاريخ 13/12/1985 أن القواعد التي تخضع لها ممارسة الوظائف القضائية ينبغي أن تهدف إلى تمكين القضاة من التصرف وفقاً لهذه المبادئ، وأن القضاة مكلفون باتخاذ القرار الأخير بشأن حياة المواطنين وحرياتهم وحقوقهم وواجباتهم وممتلكاتهم.

 

ثانياً: التشريعات الداخلية

انضمت الدولة اللبنانية إلى عدد من المواثيق الدولية كإتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة وعملت على إدماجها في قوانينها ومراسيمها وإجراءاتها العملية تكريساً لمبادىء إحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية العامة والخاصة.

كما ينظم قانون أصول المحاكمات الجزائية سلطات التوقيف والإحتجاز والتفتيش والتحري والتحقيق والجهات المناط بها تنفيذها من ضابطة عدلية ومحاكم، ويحدد الحالات التي يجوز فيها حرمان الأشخاص من حريتهم خلال مرحلتي التحقيق الأولي والقضائي وهو يمنح كل من النيابة العامة وقضاء التحقيق صلاحية حرمان أشخاص يشتبه علاقتهم بأفعال جرمية، كما يلحظ أحكاماً تؤدي إلى حرمان الأشخاص من حريتهم.

ويمنح القانون قاضي التحقيق صلاحيات إصدار مذكرات الإحضار واتخاذ قرارات التوقيف الإحتياطي وإخلاء سبيل الموقوف واتخاذ قرارات بديلة عن التوقيف الإحتياطي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لدى إقرار مجلس النواب لقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، طلب رئيس الجمهورية، عملاً بالمادة  57 من الدستور، إعادة النظر بعدد من مواده، فأخذ مجلس النواب ببعض ملاحظات رئيس الجمهورية ورفض البعض الآخر ونُشِر قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد بتاريخ 7/8/2001 إلا أنه بتاريخ 8/8/2001، وعلى أثر أحداث أمنية تم خلالها احتجاز العشرات من المعارضين السياسيين، تقدم نواب باقتراح قانون يتبنى الملاحظات التي كان أبداها رئيس الجمهورية والتي كان مجلس النواب قد ردها بأكثريته المطلقة، وبتاريخ 13/8/2001 أقرّ مجلس النواب اقتراح القانون المذكور بمادة وحيدة.

 

II-        الوضع الراهن في لبنان

 

إن إستعراض الأمر الواقع على الأرض يشير إلى مخالفات سواء في مواءمة التشريعات مع المبادىء التي تكرسها المواثيق الدولية، وقصورها عنها في عدد من النواحي، أو على مستوى الممارسات الخاصة والمخالفة للتشريعات والأوامر الإدارية الداخلية. وينعكس هذا الأمر على سبيل المثال في تجاوزات عناصر إنفاذ القانون في مختلف مراحل التحقيق والتحري، أو في منع المتهمين من الإطلاع على ملف التحقيق كي يبدوا دفاعهم، وتوقيفهم فترات طويلة دون مبرر، لاسيّما رغم براءة بعض المتهمين من التهم المنسوبة إليهم.

 

 

 

III-         التوصيات

 

1.      تعديل المادتين 41 و78 من قانون أصول المحاكمات المدنية بما يكفل للمشتبه به أو المتهم أو وكيله الإطلاع على كامل ملف التحقيق، سواء عند الإحتجاز بواسطة الضابطة العدلية أو أمام قاضي التحقيق.

2.      تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية من خلال إضافة مادة تعطي المشتبه به حق الإستجواب بوجود محامٍ أمام الضابطة العدلية.

3.      تعديل المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية بالنسبة لعدم تحديد مدة توقيف المدعى عليه بالنسبة لجنايات القتل أو المخدرات أو الإعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل وحالة المحكوم عليه سابقا بعقوبة جنائية.

4.      تعديل المادة 72 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، لجهة النص على الحق في التعويض العادل لمن يتم إيقافه أو إحتجازه تعسفياً خلال إجراءات التحقيق.

5.      إختيار رجال الضابطة العدلية من حملة شهادة الحقوق وتدريبهم وعناصر إنفاذ القانون والنيابة حول أسس ومبادىء التحقيق والتوقيف والمعاملة الإنسانية.