مداخلة دولة الرئيس نبيه بّري رئيس مجلس النواب في الجلسة الاولى لمؤتمر الفكر العربي الثاني

 المنعقد في بيروت يومي 4 - 6 كانون الاول 2003 م فندق فينيسيا بيروت – لبنان


 

بسمه تعالى

 

      بداية ارحب بإنعقاد المؤتمر الثاني للفكر العربي في لبنان رسالة المحبة والتسامح والحرية ، وفي بيروت مرضع القوانين وندوة ومنبر الحضارات والافكار ، ومطبعة الشرق ومعرض الكتاب ، وحصن القصيدة والنص ، وكتاب الادب ولوحة الفن .

 

      واتوجه بالشكر الى رئيس مؤسسة الفكر العربي صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل ، والى القيمين على المؤسسة وادارتها والى المسؤولين عن اعداد هذا المؤتمر ، الذين وضعوا اصابعهم على الجراح العربية من خلال العناوين المطروحة التي تتناول المستقبل ، والتي تحتاج الى الجرأة والحقيقة ، والتي سأحاول التمهيد لها ، حيث انه من المؤكد ان اختياري والاصدقاء المشاركين في هذه الجلسة لمراجعة الوضع العربي ، ليس لأننا نجيد البكاء على الاطلال ، حيث انني من جهتي على الاقل لن ابكي ملكا" او احلام او مشاريع تتصل بأماني الشارع العربي واقطاره ، ضيعها من كان وربما بعضهم لازال في موقع المسؤولية .

 

      كما اني في هذا الموقع لن انصب نفسي قاضيا" او محاميا" او جلادا" لأي موقع او موقف من مواقع ومواقف السلطات العربية ، فالتاريخ والناس هما اللذان يحاكمان ويحكمان .

 

      امـا بعـد ،

      فإني اجزم ان الاخ الدكتور عمرو موسى الامين العام لجامعة الدول العربية ، يملك في محفوظات الجامعة وثائق محسوبة في الزمان والمكان العربي ، تشكل بانوراما لصورة المشهد العربي منذ تأسيس الجامعة الى اليوم ، تغنينا جميعا" عن استعراض المساحات السوداء او القاتمة او المضطربة او القلقة او المتوترة في ذلك المشهد ، الذي وللاسف الشديد لا توجد فيه سوى مساحات قليلة مضيئة ، لعل ابرزها حرب تشرين ( اكتوبر ) عام 1973 ، وكذلك اجبار الجيش الاسرائيلي على التراجع على مراحل وصولا" الى الاندحار تحت وطأة ضربات المقاومة عن معظم الاراضي اللبنانية في ايار عام 2000 .

 

      واجزم ان معالى الاستاذ غسان تويني الذي يقف على رأس احدى اهم مؤسسات الرأي العام الاعلامية العربية المكتوبة يستطيع ان يفتح باب ارشيف ( النهار ) امام أي باحث عربي من اجل اجمال يوميات وثائقية لصورة المشهد العربي .

 

      الا انه لا بد من تركيز الانتباه على بعض المحطات الاساسية التي تشكل عـاملا" اساسيا" مؤثرا" في صياغة المشهد العربي الراهن وابرزها :

 

1 – احداث الحادي عشر من ايلول ( سبتمبر ) ، التي جعلت العالمين العربي والاسلامي متهما" بأنه حاضن او داعم او راع للارهاب ، وهي الاحداث نفسها التي استخدمت لتوليد ما يوصف صراع الحضارات ، ومحاولة وضع المنطقة تحت وهم حرب صليبية جديدة .

      في هذا المجال نرى ان التفكك الذي اصاب النظام العربي العام ، والوهن والضعف الذي تعاني منه مختلف انماط السلطات القطرية العربية ، جعل منها جميعا" هدفا" سهلا" محتملا" لحرب السيطرة على الموارد البشرية والطبيعية  للمنطقة ، تحت جملة مبـررات ابرزها :

 

      أ – ضمان امن اسرائيل وبناء وصنع التسوية بشروط الامن الاسرائيلي .

      ب – اجتثات الارهاب ( الانموذج الافغاني ) .

      ج – اسلحة الدمار الشامل ( الانموذج العراقي ) .

      د – مزاعم دعم الاصلاح تحت مبرر تحسين الفرص الاقتصادية وتوسيع المشاركة السياسية لشعوب الشرق الاوسط .

 

      انني في هذا المجال اود ان اشير الى ان القوى السلفية استهدفت اول ما استهدفت النظامين العربيين الاكثر راديكالية من وجهة النظر الاميركية ، وكانت مصر عبد الناصر وسوريا حافظ الاسد الاهداف المركزية لهذه التنظيمات ، ومن ثم قامت الادارة الاميركية نفسها بإعادة تصميم وبإنتاج جملة منظمات لمساندة حربها ضد الشيوعية ، واتخذت تلك المنظمات من افغانستان موقعا" لحربها ضد الكفر والالحاد والاحتلال السوفياتي ، ثم إن هذه المنظمات نفسها استغلت ووجهت حركتها بإتجاه المصالح الاميركية بدرجة اولى من اجل الاستثمار على حركتها في سبيل تبرير انطلاق ( الامبريالية الجديدة ) بالاعتماد على الاحتكار المركزي للقوة واستخدامها ، وبالتالي توصلا" لجعل نفسها سلطة قابضة على العالم .

 

      وفي هذا المجال اود ان اركز انتباه الجميع ، الى ان ما يجري في الواقع هو صراع بين حضارة التكنو – الكترونيك التي تحاول ان تؤسس لنفسها مشروعا" عقائديا" ومشروعا" سياسيا" ومشروعا" تنظيميا" يخضع للادارة الاميركية ، وبين الحضارات المبنية على الاديان السماوية الاسلام والمسيحية واليهودية ، وقد تكون قلة من ابناء تلك الديانات انحرفت تاريخيا" او مصلحيا" ، وحولت نفسها الى ادوات لمشروع الحضارة الجديدة التي بدل ان تسعى لتحقيق رفاهية الانسان وتقليص مساحات الفقر ، تعمل من اجل السيطرة وعولمة الفقر .

 

      ان ما تقدم جاء ليتوج التحديات المفروضة على عالمنا العربي اساسا" والذي يعاني في هذه اللحظة السياسية من جملة ازمات مركبة يجمع البعض منها :

 

1 – قاسم مشترك هو ( الاحتلال ) .

      فهناك احتلال اسرائيلي للاراضي الفلسطينية بالاضافة الى الجولان العربي السوري ومزارع شبعا اللبنانية ،

      وهناك احتلال اميركي للعراق .

 

      ولا يمكن لأحد او يفصل بين هذا الاحتلال او ذاك ، بالزعم بأن الاول هو احتلال استيطاني يرتكز على مشروع عقائدي وسياسي وتنظيمي ، بينما الاخر مختلف ومؤقت وله اهداف مختلفة ، مهما كانت مبرراته واسبابه ومدته وآلياته حيث ان الاحتلال لا يمكن ان يكون اخلاقيا" او انسانيا" او اقتصاديا" ، ولا يمكن لأي احتلال ان يبعث الامل بإعادة انتاج السلطة الانموذج والنقيض لصورة السلطة القمعية التي كانت قائمة .

 

      ان كلا الاحتلالين اصبح يتغذى من الاخر ويحاول تبرير الاخر ، ويحاول كل منهما اخضاع الموقف العربي عامة والموقفين الفلسطيني والعراقي الى شروط انتاج سلطتهما وفق مصلحة المحتل ، ووفق معادلة امن الاحتلال مقابل السلام ، وهذا ( الامن ) في القضية الفلسطينية يعني تقويض :

 

أ – كل وسائل الحياة للشعب الفلسطيني .

ب – تحويل المساحات البشرية الفلسطينية الىمربعات مقيدة ومراقبة عبر جدار الفصل .

ج – التوطين .

      وبهذه المناسبة انبه بصفة عامة الى وقوع المنطقة العربية من المحيط الى الخليج تحت ضغط قوانيني واجرائي للادارة الاميركية ، التي تفترض ان رئيسها وحكومتها ومجلسها النيابي اصبحوا يمثلون حكومة العالم ، ومجلسي نواب وشيوخ العالم وهو ما يشبه ادارة روما لمناطق الامبراطورية .

 

      واقول ان قوانين العقوبات التي يصدرها الكونغرس الاميركي والتي طاولت اكثر من قطر عربي ، تحاول ان تمهد بصفة خاصة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين ، وهو بعد جديد للاستبداد القوانيني الذي يحاول الطغيان على القانون الدولي .

 

      وفي جديد ذلك يبرز ايضا" قانون محاسبة سوريا ومحاولة جعلها هدفا" ( قانونيا ) للادارة الاميركية ، ولا بد من توجيه عناية المشاركين في هذا المؤتمر كذلك الى الكلام الذي يدور في واشنطن حول اقتراح قانون لمحاسبة السعودية ، وربما غدا" مصر او أي قطر آخر بعد ان كانت السودان هدفا" لقانون مماثل .

 

      بإختصار شديد فإن المنطقة العربية وشمال افريقيا يقعان على منظار تصويب حرب السيطرة الاميركية الهادفة لوضع اليد على الموارد البشرية والطبيعية لهذه المنطقة .

 

      ايها السادة ،

      لم نكن بحاجة الى تقرير التنمية البشرية الثاني ولا الاول الذي اصدره برنامج الامم المتحدة لمعرفة الحقيقة ، للتدليل على أن الديموقراطية بالكاد لامست الدول العربية وان احدا" لا يتصدى للمشاكل الحقيقية التي يخدم حلها شعوبنا .

 

      واجزم بأن محفوظات جامعة الدول العربية تضم حلولا" لكافة مشاكلنا القطرية والقومية ، وان الخبراء العرب لم يألوا جهدا" في وضع الخطط والتصميم من اجل النهوض بالموقف العربي ومن اجل تنمية الموارد البشرية والتنمية السياسية .

 

      ان مشروع السوق العربية المشتركة طرح على سبيل المثال قبل ان تبرز فكرة الاتحاد الاوروبي .

 

      ان مشروع البرلمان العربي طرح قبل ان تسلك اوروبا خيار البرلمان الاوروبي .

 

      ان مشروع الدفاع العربي المشترك وغيرها من المشاريع مطروحة منذ الخمسينات من القرن الماضي .

 

      الا ان العلة كانت ولاتزال في سلطة القرار السياسي العربي .

 

      ان سلطة القرار العربي هي التي اضاعت فلسطين وهي التي اضاعت العراق ، وهي حيثما تريد تتمسك بمبدأ السيادية ، حتى في هذه اللحظة عندما نطالب بمساندة الشعب الفلسطيني او لبنان او سوريا بمواجهة العدوان عبر قرار بتعليق العلاقات مع اسرائيل وبالعودة الى قرار المقاطعة ، تبرز اصوات تعتبر ان هذا المطلب يمس القرار السيادي لبعض الاقطار العربية .

 

      ان سلطة القرار العربي هي التي اضاعت الوقت داخل اقطارها ، ولم تبادر الى تعزيز المشاركة ، ولم تفسح المجال امام انظمة انتخابية ديموقراطية ولا امام تداول السلطة .

 

      ما هو الحل ؟

      هل هو في اعتبار التغيير مهمة امبريالية ؟

       الجواب ، بالطبع لا 0000

 

      ان مشكلة المشاكل في وطننا العربي ليست في صورة المشهد المبكي المضحك الذي نظهر فيه من المحيط الى الخليج وفيما نحن واقعون فيه ، او حجم الاخطار التي تهددنا ، انما المشكلة هي في طبيعة الدولة في اقطارنا ، وانا هنا لا اقارب ولا احاول المساس بأنماط السلطة في الوطن العربي ، كما اني لا احاول المساس بأي كان ولا بالاطار التنظيمي لوحدة المجتمع في الاقطار العربية ، وكما اني لا احاول التلاؤم ولا الاستجابة لما تريده واشنطن او غيرها ، ذلك لأن احلامنا بالاصلاح والتغيير على المستويين القطري والعربي هي احلام اجيال احبطت وصدمت ووقعت تحت ضغط نكسات متعددة .

 

      لذلك ، فإننا وازاء ما نحن عليه ، وبغياب مفهوم الدولة وبوجود انماط السلطات السائدة في الوطن العربي ، فإننا لا بُدّ وان نحصد النتائج التي آل اليها وضعنا .

 

      ان الحل بالامس واليوم وغدا" هو : وعي مفهوم وخصائص الدولة ومهامها .

 

      والحل هو في ادراك القوى والعناصر التي تحتكر السلطة في الاقطار العربية لما قاله روسو " ان ما من احد قوي الى الحد الذي يمكن ان يكون فيه متأكدا" من انه سيبقى دوما" الاقوى " . 

 

      ان قيام هذا الارتباط وبناء الثقة بالدولة لا يمكن ان يتحقق بالقوة ، بل بممارسة المواطنين الكاملة للحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كل ما يصنع حياة الدولة أي دولة والمجتمع أي مجتمع .

 

      ان الاستمرار في تغييب الديموقراطية او تقطيرها سيؤدي الى فقدان السلام القطري والسلام في ما بيننا ، والسلام في ما بيننا وبين جوارنا الاقليمي و العالم ، سواء من يعادينا او من يسالمنا .

 

      ان تسلح دولنا وشعوبنا بالديموقراطية سيمكننا اكثر من أي سلاح من استعادة وحدة مجتمعاتنا التي هي السلاح الاقوى بمواجهة اعدائنا .

      اقـول قـولي هذا سائلا" التـوفيق لي ولكم في جعـل ( الدولة ) ( المؤسسة ) هي اطارنا المجتمعي ، لأن ذلك يشكل الخطوة الاولى لتقدم اقطارنا وامتنا .

 

                              والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته