بسمه تعالى
بداية ارحب بإنعقاد المؤتمر الثاني للفكر العربي في لبنان رسالة المحبة والتسامح
والحرية ، وفي بيروت مرضع القوانين وندوة ومنبر الحضارات والافكار ، ومطبعة الشرق
ومعرض الكتاب ، وحصن القصيدة والنص ، وكتاب الادب ولوحة الفن .
واتوجه بالشكر الى رئيس مؤسسة الفكر العربي صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل ،
والى القيمين على المؤسسة وادارتها والى المسؤولين عن اعداد هذا المؤتمر ، الذين
وضعوا اصابعهم على الجراح العربية من خلال العناوين المطروحة التي تتناول المستقبل
، والتي تحتاج الى الجرأة والحقيقة ، والتي سأحاول التمهيد لها ، حيث انه من المؤكد
ان اختياري والاصدقاء المشاركين في هذه الجلسة لمراجعة الوضع العربي ، ليس لأننا
نجيد البكاء على الاطلال ، حيث انني من جهتي على الاقل لن ابكي ملكا" او احلام او
مشاريع تتصل بأماني الشارع العربي واقطاره ، ضيعها من كان وربما بعضهم لازال في
موقع المسؤولية .
كما اني في هذا الموقع لن انصب نفسي قاضيا" او محاميا" او جلادا" لأي موقع او موقف
من مواقع ومواقف السلطات العربية ، فالتاريخ والناس هما اللذان يحاكمان ويحكمان .
امـا بعـد ،
فإني اجزم ان الاخ الدكتور عمرو موسى الامين العام لجامعة الدول العربية ، يملك في
محفوظات الجامعة وثائق محسوبة في الزمان والمكان العربي ، تشكل بانوراما لصورة
المشهد العربي منذ تأسيس الجامعة الى اليوم ، تغنينا جميعا" عن استعراض المساحات
السوداء او القاتمة او المضطربة او القلقة او المتوترة في ذلك المشهد ، الذي وللاسف
الشديد لا توجد فيه سوى مساحات قليلة مضيئة ، لعل ابرزها حرب تشرين ( اكتوبر ) عام
1973 ، وكذلك اجبار الجيش الاسرائيلي على التراجع على مراحل وصولا" الى الاندحار
تحت وطأة ضربات المقاومة عن معظم الاراضي اللبنانية في ايار عام 2000 .
واجزم ان معالى الاستاذ غسان تويني الذي يقف على رأس احدى اهم مؤسسات الرأي العام
الاعلامية العربية المكتوبة يستطيع ان يفتح باب ارشيف ( النهار ) امام أي باحث عربي
من اجل اجمال يوميات وثائقية لصورة المشهد العربي .
الا انه لا بد من تركيز الانتباه على بعض المحطات الاساسية التي تشكل عـاملا"
اساسيا" مؤثرا" في صياغة المشهد العربي الراهن وابرزها :
1 –
احداث الحادي عشر من ايلول ( سبتمبر ) ، التي جعلت العالمين العربي والاسلامي
متهما" بأنه حاضن او داعم او راع للارهاب ، وهي الاحداث نفسها التي استخدمت لتوليد
ما يوصف صراع الحضارات ، ومحاولة وضع المنطقة تحت وهم حرب صليبية جديدة .
في هذا المجال نرى ان التفكك الذي اصاب النظام العربي العام ، والوهن والضعف الذي
تعاني منه مختلف انماط السلطات القطرية العربية ، جعل منها جميعا" هدفا" سهلا"
محتملا" لحرب السيطرة على الموارد البشرية والطبيعية للمنطقة ، تحت جملة مبـررات
ابرزها :
أ – ضمان امن اسرائيل وبناء وصنع التسوية بشروط الامن الاسرائيلي .
ب – اجتثات الارهاب ( الانموذج الافغاني ) .
ج – اسلحة الدمار الشامل ( الانموذج العراقي ) .
د – مزاعم دعم الاصلاح تحت مبرر تحسين الفرص الاقتصادية وتوسيع المشاركة السياسية
لشعوب الشرق الاوسط .
انني في هذا المجال اود ان اشير الى ان القوى السلفية استهدفت اول ما استهدفت
النظامين العربيين الاكثر راديكالية من وجهة النظر الاميركية ، وكانت مصر عبد
الناصر وسوريا حافظ الاسد الاهداف المركزية لهذه التنظيمات ، ومن ثم قامت الادارة
الاميركية نفسها بإعادة تصميم وبإنتاج جملة منظمات لمساندة حربها ضد الشيوعية ،
واتخذت تلك المنظمات من افغانستان موقعا" لحربها ضد الكفر والالحاد والاحتلال
السوفياتي ، ثم إن هذه المنظمات نفسها استغلت ووجهت حركتها بإتجاه المصالح
الاميركية بدرجة اولى من اجل الاستثمار على حركتها في سبيل تبرير انطلاق (
الامبريالية الجديدة ) بالاعتماد على الاحتكار المركزي للقوة واستخدامها ، وبالتالي
توصلا" لجعل نفسها سلطة قابضة على العالم .
وفي هذا المجال اود ان اركز انتباه الجميع ، الى ان ما يجري في الواقع هو صراع بين
حضارة التكنو – الكترونيك التي تحاول ان تؤسس لنفسها مشروعا" عقائديا" ومشروعا"
سياسيا" ومشروعا" تنظيميا" يخضع للادارة الاميركية ، وبين الحضارات المبنية على
الاديان السماوية الاسلام والمسيحية واليهودية ، وقد تكون قلة من ابناء تلك
الديانات انحرفت تاريخيا" او مصلحيا" ، وحولت نفسها الى ادوات لمشروع الحضارة
الجديدة التي بدل ان تسعى لتحقيق رفاهية الانسان وتقليص مساحات الفقر ، تعمل من اجل
السيطرة وعولمة الفقر .
ان ما تقدم جاء ليتوج التحديات المفروضة على عالمنا العربي اساسا" والذي يعاني في
هذه اللحظة السياسية من جملة ازمات مركبة يجمع البعض منها :
1 –
قاسم مشترك هو ( الاحتلال ) .
فهناك احتلال اسرائيلي للاراضي الفلسطينية بالاضافة الى الجولان العربي السوري
ومزارع شبعا اللبنانية ،
وهناك احتلال اميركي للعراق .
ولا يمكن لأحد او يفصل بين هذا الاحتلال او ذاك ، بالزعم بأن الاول هو احتلال
استيطاني يرتكز على مشروع عقائدي وسياسي وتنظيمي ، بينما الاخر مختلف ومؤقت وله
اهداف مختلفة ، مهما كانت مبرراته واسبابه ومدته وآلياته حيث ان الاحتلال لا يمكن
ان يكون اخلاقيا" او انسانيا" او اقتصاديا" ، ولا يمكن لأي احتلال ان يبعث الامل
بإعادة انتاج السلطة الانموذج والنقيض لصورة السلطة القمعية التي كانت قائمة .
ان كلا الاحتلالين اصبح يتغذى من الاخر ويحاول تبرير الاخر ، ويحاول كل منهما اخضاع
الموقف العربي عامة والموقفين الفلسطيني والعراقي الى شروط انتاج سلطتهما وفق مصلحة
المحتل ، ووفق معادلة امن الاحتلال مقابل السلام ، وهذا ( الامن ) في القضية
الفلسطينية يعني تقويض :
أ –
كل وسائل الحياة للشعب الفلسطيني .
ب –
تحويل المساحات البشرية الفلسطينية الىمربعات مقيدة ومراقبة عبر جدار الفصل .
ج –
التوطين .
وبهذه المناسبة انبه بصفة عامة الى وقوع المنطقة العربية من المحيط الى الخليج تحت
ضغط قوانيني واجرائي للادارة الاميركية ، التي تفترض ان رئيسها وحكومتها ومجلسها
النيابي اصبحوا يمثلون حكومة العالم ، ومجلسي نواب وشيوخ العالم وهو ما يشبه ادارة
روما لمناطق الامبراطورية .
واقول ان قوانين العقوبات التي يصدرها الكونغرس الاميركي والتي طاولت اكثر من قطر
عربي ، تحاول ان تمهد بصفة خاصة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين ، وهو بعد جديد
للاستبداد القوانيني الذي يحاول الطغيان على القانون الدولي .
وفي جديد ذلك يبرز ايضا" قانون محاسبة سوريا ومحاولة جعلها هدفا" ( قانونيا )
للادارة الاميركية ، ولا بد من توجيه عناية المشاركين في هذا المؤتمر كذلك الى
الكلام الذي يدور في واشنطن حول اقتراح قانون لمحاسبة السعودية ، وربما غدا" مصر او
أي قطر آخر بعد ان كانت السودان هدفا" لقانون مماثل .
بإختصار شديد فإن المنطقة العربية وشمال افريقيا يقعان على منظار تصويب حرب السيطرة
الاميركية الهادفة لوضع اليد على الموارد البشرية والطبيعية لهذه المنطقة .
ايها السادة ،
لم نكن بحاجة الى تقرير التنمية البشرية الثاني ولا الاول الذي اصدره برنامج الامم
المتحدة لمعرفة الحقيقة ، للتدليل على أن الديموقراطية بالكاد لامست الدول العربية
وان احدا" لا يتصدى للمشاكل الحقيقية التي يخدم حلها شعوبنا .
واجزم بأن محفوظات جامعة الدول العربية تضم حلولا" لكافة مشاكلنا القطرية والقومية
، وان الخبراء العرب لم يألوا جهدا" في وضع الخطط والتصميم من اجل النهوض بالموقف
العربي ومن اجل تنمية الموارد البشرية والتنمية السياسية .
ان مشروع السوق العربية المشتركة طرح على سبيل المثال قبل ان تبرز فكرة الاتحاد
الاوروبي .
ان مشروع البرلمان العربي طرح قبل ان تسلك اوروبا خيار البرلمان الاوروبي .
ان مشروع الدفاع العربي المشترك وغيرها من المشاريع مطروحة منذ الخمسينات من القرن
الماضي .
الا ان العلة كانت ولاتزال في سلطة القرار السياسي العربي .
ان سلطة القرار العربي هي التي اضاعت فلسطين وهي التي اضاعت العراق ، وهي حيثما
تريد تتمسك بمبدأ السيادية ، حتى في هذه اللحظة عندما نطالب بمساندة الشعب
الفلسطيني او لبنان او سوريا بمواجهة العدوان عبر قرار بتعليق العلاقات مع اسرائيل
وبالعودة الى قرار المقاطعة ، تبرز اصوات تعتبر ان هذا المطلب يمس القرار السيادي
لبعض الاقطار العربية .
ان سلطة القرار العربي هي التي اضاعت الوقت داخل اقطارها ، ولم تبادر الى تعزيز
المشاركة ، ولم تفسح المجال امام انظمة انتخابية ديموقراطية ولا امام تداول السلطة
.
ما هو الحل ؟
هل هو في اعتبار التغيير مهمة امبريالية ؟
الجواب ، بالطبع لا 0000
ان مشكلة المشاكل في وطننا العربي ليست في صورة المشهد المبكي المضحك الذي نظهر فيه
من المحيط الى الخليج وفيما نحن واقعون فيه ، او حجم الاخطار التي تهددنا ، انما
المشكلة هي في طبيعة الدولة في اقطارنا ، وانا هنا لا اقارب ولا احاول المساس
بأنماط السلطة في الوطن العربي ، كما اني لا احاول المساس بأي كان ولا بالاطار
التنظيمي لوحدة المجتمع في الاقطار العربية ، وكما اني لا احاول التلاؤم ولا
الاستجابة لما تريده واشنطن او غيرها ، ذلك لأن احلامنا بالاصلاح والتغيير على
المستويين القطري والعربي هي احلام اجيال احبطت وصدمت ووقعت تحت ضغط نكسات متعددة .
لذلك ، فإننا وازاء ما نحن عليه ، وبغياب مفهوم الدولة وبوجود انماط السلطات
السائدة في الوطن العربي ، فإننا لا بُدّ وان نحصد النتائج التي آل اليها وضعنا .
ان الحل بالامس واليوم وغدا" هو : وعي مفهوم وخصائص الدولة ومهامها .
والحل هو في ادراك القوى والعناصر التي تحتكر السلطة في الاقطار العربية لما قاله
روسو " ان ما من احد قوي الى الحد الذي يمكن ان يكون فيه متأكدا" من انه سيبقى
دوما" الاقوى " .
ان قيام هذا الارتباط وبناء الثقة بالدولة لا يمكن ان يتحقق بالقوة ، بل بممارسة
المواطنين الكاملة للحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كل ما
يصنع حياة الدولة أي دولة والمجتمع أي مجتمع .
ان الاستمرار في تغييب الديموقراطية او تقطيرها سيؤدي الى فقدان السلام القطري
والسلام في ما بيننا ، والسلام في ما بيننا وبين جوارنا الاقليمي و العالم ، سواء
من يعادينا او من يسالمنا .
ان تسلح دولنا وشعوبنا بالديموقراطية سيمكننا اكثر من أي سلاح من استعادة وحدة
مجتمعاتنا التي هي السلاح الاقوى بمواجهة اعدائنا .
اقـول قـولي هذا سائلا" التـوفيق لي ولكم في جعـل ( الدولة ) ( المؤسسة ) هي اطارنا
المجتمعي ، لأن ذلك يشكل الخطوة الاولى لتقدم اقطارنا وامتنا .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته