قانون العقوبات هو التشريع الذي يشمل الأفعال الجرمية التي يرتكبها الأشخاص ضد أشخاص آخرين أو ضد الدولة، جنايات كانت أم جنحاً، وهو الذي يحدد الجزاء المناسب لكل فعل مرتكب. وما يعنينا في موضوع قانون العقوبات هو مدى التزامه العدالة وأحكام المواثيق الدولية.

 

I-  الواقع القانوني

 

أولاً: التشريعات الدولية

صدرت، على الصعيد الدولي، إتفاقيات وإعلانات وبروتوكولات وتوصيات عدة تكرّس مبدأ سمو الكرامة الإنسانية، حتى لو كان المرء مجرماً يقضي عقوبة جزائية ناجمة عن إرتكابه الجرائم، ذلك أنه يبقى إنساناً متمتعاً بالكرامة الأصيلة الناجزة.

وفي هذا السياق، أدانت المواثيق الدولية عقوبات جزائية عدّة كالإعدام والأشغال الشاقة والإبعاد والإقامة الجبرية والتجريد المدني كما اهتمّت بالمعاملة الإنسانية لجميع الناس بمن فيهم السجناء، فعُنيت بتحديد ظروف الحياة في السجن وظروف معاملة المسجونين. ومن أهم التشريعات الدولية التي كرّست هذه المبادئ:

-        إتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار رقم 39/46 تاريخ 10/12/1984،

-        مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية الأشخاص كافة الذين يتعرّضون لأيّ شكل من أشكال الإحتجاز أو السجن الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار رقم 43/173 تاريخ 9/12/1988،

-        المبادئ الأساسية لمعاملة المسجونين الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار رقم 45/111 تاريخ 14/12/1990.

 

ثانياً: التشريعات الداخلية

سادت في لبنان تاريخياً تشريعات عدة تختلف من حيث أصولها ومبادئها الأساسية اختلافاً كبيراً، منها ما كان صدى لتقاليد السكان الأصليين في لبنان، ومنها ما صاحب سيطرة شعوب وأنظمة أجنبية على البلاد. ومع أن هذا الأمر يعكس خصوصية لبنان كملتقى قديم للحضارات والثقافات والأجناس إلا أنه يؤدي في الوقت عينه إلى افتقار القواعد الجزائية إلى الروح العامة والتجانس الذي ينبغي أن تتميز به القوانين.

 

فتعرّض القانون الجزائي اللبناني عبر الأزمنة المختلفة لتعديلات عديدة لمواكبة التطورات الإجتماعية ومواءمة الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية المختلفة من آنٍ إلى آخر بين فترة ما عرف بتطبيق الشريعة الإسلامية في ما قبل الحكم العثماني، ثم تطبيق القانون العثماني منذ 1810 حتى تبنت الدولة العثمانية قانون الجزاء العثماني المستمد من القانون الفرنسي من 1858 وصولاً إلى صدور قانون العقوبات اللبناني في 1943.

ينص قانون العقوبات اللبناني على الأحكام العامة المتعلّقة بتطبيق القانون الجزائي وأركان الجريمة والأشخاص المسؤولين عنها وأسباب التبرير وموانع المسؤولية والعقاب والتدابير الإحترازية والأعذار والأسباب المخففة والأسباب المشدّدة؛ كما ينصّ على الجرائم الخاصة مبيناً عناصر كلّ منها والعقوبة اللاحقة بها.

وقد اعتُبِر هذا القانون وقت صدوره نموذجاً للعمل التشريعي، واستطاع التوفيق بين اتجاهات قانونية متعارضة (النظريات الفرنسية والايطالية والتقدمية)، وتجاوب مع الأفكار العلمية الحديثة بتاريخ وضعه.

ولكن، رغم شمول قانون العقوبات اللبناني معظم الجرائم، فقد بقي بعضها خاضعاً لتشريع خاص به؛ نظراً إلى صفة الفاعل، أو نظراً إلى نوع الجريمة، ما جعل مصادر التشريع الجنائي تتوزع بين قانون عام للعقوبات وعدد من القوانين الخاصة كالقانون الخاص بالعقوبات العسكرية؛ والقوانين الأخرى خاصة ببعض الجرائم، كقوانين الأسلحة، والمطبوعات، والمخدرات، والبناء، والسير، التي تفرض عقوبات جزائية على مخالفات عسكرية ومدنية تتعلق بالمخدرات، والجمارك، والضرائب، والمرور، والمطبوعات، والتهريب، والعقارات، والأدوية والسموم وخلافها، إلا أن هذا المنحى لا يشكل حالة خاصة بلبنان ويوجد في معظم قوانين الدول الأخرى، حسب طبيعة المخالفات للقوانين الخاصة.

 

II-    الوضع الراهن في لبنان

 

أولاً: الصعوبات والتحديات

إنّ مبدأ تسلسل القواعد المشار إليه في الدستور اللبناني من شأنه منع تطبيق القوانين اللبنانية المتعارضة مع مبادئ حقوق الإنسان الدولية المكرّسة بموجب مقدّمة الدستور ومنها قانون العقوبات اللبناني، إلا أن حَصْر الرقابة الدستورية بالمجلس الدستوري وحق الإدلاء بعدم دستورية القوانين بأشخاص معينين فقط ووفقاً لأصول مقيّدة، جعل القوانين الجزائية المتناقضة مع حقوق الإنسان وحرياته الأساسية سارية المفعول ومطبّقة، دون أن يتمكن المواطن/المتقاضي من أن يدفع أو يطعن بعدم دستورية أحكام هذه القوانين، مما يبرر بقاء القوانين اللبنانية ومن بينها قانون العقوبات اللبناني حاملة في ثناياها أحكاماً مخالفة للدستور، والمواثيق الدولية، ناهيك عن تلك المعاهدات والصكوك الدولية التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة التي لم يوقع أو يصادق عليها لبنان بعد.

كما أن تنوّع مصادر التشريع الجزائي وتوزّعها على قوانين ومراسيم عدة، يجعل من الصعب حصرها والعودة إليها لعدم قوننتها وتصنيفها في قانون واحد.

وبالعودة إلى قانون العقوبات اللبناني وسائر القوانين الجزائية، يتبيّن أنّ ثمّة عدداً من النصوص المخالفة للمواثيق والمبادئ الدولية المستقرّة حديثاً نذكر منها:

-          النصوص التي تتضمّن عقوبات مهينة للكرامة الانسانية، كالإعدام (المواد 43 و275 و336 و549 من قانون العقوبات وقانون 11/1/1958 الذي شدّد عقوبة الأعمال الإرهابية المنصوص عليها في قانون العقوبات اللبناني لغاية الأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام) والأشغال الشاقة (المواد 37 و44 و45 و50 و56 من قانون العقوبات) والتجريد المدني والإبعاد والإقامة الجبرية (المواد 38 و47 من قانون العقوبات).

-          النصوص التي تتعرّض للحقوق والحريات المكرّسة عالمياً، كحرية المعتقد (المادة 473 من قانون العقوبات)، وحرية الإعلام (المادة 3 من المرسوم الإشتراعي رقم 104/77 الذي عدّل قانون المطبوعات)، وحرية الإنخراط في الجمعيات السياسية أو الإجتماعية ذات الطابع الدولي (المادة 298 من قانون العقوبات)، وتقييد الحق في الإضراب (المادتان 340 و 341 من قانون العقوبات اللبناني)، وحقوق المرأة (الإجهاض (المواد 539 إلى 541 من قانون العقوبات)، الزنى (المادة 487 من قانون العقوبات)، البغاء (المواد 523 وما يليها من قانون العقوبات)، المعانفة والتحرش والإيذاء (المواد 503 إلى 536 من قانون العقوبات).

 

 

ثانياً: الممارسات الرسمية

في سبيل إحصاء القوانين الجزائية المختلفة تألفت لجنة لإحصاء التشريعات التي تكافح بعض الجرائم والمخالفات؛ وتبين لها أن عدد هذه القوانين والقرارات بلغ نحواً من ثلاثمئة وخمسين قانوناً أو قراراً[1].

أما بشأن تطوير قانون العقوبات وملاءمته مع التشريعات الدولية، فقد ألغى المشرّع اللبناني بموجب القانون رقم 162/2011 المادة 562 من قانون العقوبات اللبناني التي تمنح عذراً مخففاً من يرتكب قتل زوجه أو أحد أصوله أو فروعه في جريمة الزنى أو الجماع غير المشروع، المعروفة بـ"جرائم الشرف".

كما بذل المجتمع المدني اللبناني جهوداً مكثفة من أجل التصدي لمشكلة العنف الأسري وذلك منذ العام 2007 وتم صياغة وترويج مشروع قانون للعنف الأسري وافقت عليه الحكومة، ومن شأنه تجريم العنف البدني والعاطفي والجنسي، بما في ذلك الاغتصاب الزوجي، كما يوفر الكثير من الإجراءات الوقائية والحمائية المطلوبة للمساعدة في تقليل حالات العنف الأسري، مع إنشاء وحدات متخصصة في العنف الأسري في قوى الأمن الداخلي من أجل النظر في شكاوى العنف الأسري لقي تحفُّظات دار الإفتاء، وهو اليوم قيد المناقشة أمام لجنة فرعية منبثقة عن اللجان النيابيَّة المشتركة.

 

III-     التوصيات

 

تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في قانون العقوبات كي يصبح أكثر ملاءمة وانسجاماً مع التطور القانوني الدولي.

لذلك فإنَّ مشروع الخطة القطاعية ينصبّ على:

1.      إصدار قانون عقوبات موحد يشمل مختلف الجرائم الجزائية المنصوص عنها في قانون العقوبات والقوانين الأخرى.

2.      تدريب القانونيين على وسائل العمل وتعميق البحث في القوانين اللبنانية؛ من أجل تقصّي مكامن الخلل فيها، ومواطن الإختلاف والتناقض مع المبادئ المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، التي أقرتها المواثيق والصكوك الدولية ذات الصلة.

3.      تعديل القوانين الجزائية بشكل يتوافق مع القانون الدولي وحقوق الإنسان، وأبرزها:

أ‌-       إلغاء عقوبة الإعدام من القوانين التي وردت فيها وإلى حين ذلك، تجميد تنفيذها (راجع دراسة "عقوبة الإعدام".

ب‌-    تجريم جميع أشكال التعذيب وإساءة المعاملة وفقاً للمعايير الدولية للمحاكمات العادلة[2].

ت‌-    تعديل المادتين 503 و504 من قانون العقوبات بحيث يصبح الإغتصاب الزوجي من الجرائم.

ث‌-    تبني مشروع قانون العنف الأسري الذي وافقت عليه الحكومة اللبنانية السابقة في أيار 2010.

ج‌-     إلغاء المواد 487 و488 و489 من قانون العقوبات، الخاصة بالزنا، وعدم تجريم الجنس الطوعي بين البالغين.

ح‌-    الغاء المادة 522 التي تتعلق بوقف ملاحقة المعتدي على فتاة أو امرأة اذا عقد زواج صحيح بين المعتدي والمعتدى عليها. ذلك أنه يقتضي معاقبة الفاعل عملا بنص إحدى المواد التي تنطبق على فعل الإعتداء  طالما أن هذا الفعل حصل وتم.  ذلك أن نص المادة 522 المقترح يشجع الاعتداء على الفتيات بقصد الزواج منهن رغم ارادتهن فيكون الزواج المعتبر صحيحاً مشوباً بالاكراه وبالتالي فهو زواج باطل.

خ‌-    إلغاء عقوبة الأشغال الشاقة، سواء كانت مؤبدة أم مؤقتة، وعقوبة الإبعاد والإقامة الجبرية، وإعتماد مبدأ العقوبات البديلة للجرائم الغير خطيرة.

إعتماد وتمويل خطة لإعادة تأهيل السجناء (راجع دراسة "السجون"). 



[1]  مصطفى العوجي، القانون الجنائي العام - النظرية العامة للجريمة، الجزء الأول، ص 179 إلى 187، مؤسسة نوفل ، الطبعة الثانية، بيروت - لبنان، 1988.

[2]  توصية وافق عليها لبنان في الإستعراض الدوري الشامل.