7-    الإختفاء القسري

 

من أقسى النتائج التي خلّفتها حرب 1975-1990 في لبنان، والتي شملت وطاولت الجميع دون أي تمييز ديني أو طائفي أو مناطقي أو حزبي هي مشكلة الإختفاء القسري.

تشير الأرقام في لبنان إلى اختفاء ما يزيد عن سبعة عشر ألفاً من الأشخاص من جميع الطوائف من المقاتلين والمدنيين.

وإلى جانب المخفيين قسراً إثر الحرب، تتحدث التقارير عن أشخاص لبنانيين مخفيين من إسرائيل تبعاً لاحتلالها جنوب لبنان، إضافةً إلى إختفاءات قسريّة في كلّ من الجمهورية العربية السورية والجماهيرية الليبية وجمهورية العراق.

وقد جمعت هذه المصيبة اللبنانيين واللبنانيات في "وحدة وطنية مأساوية"، أما السبب في استمرار المأساة والمعاناة، فمردّه إلى غياب الإرادة السياسية الحاسمة في اتجاه وضع ملف المخفيين قسراً في أعلى سلم الأولويات بدليل قصور معالجة هذا الملف من قبل الحكومات المتعاقبة.

 

I-     الوضع القانوني

 

أولاً: التشريعات الدولية

لم يعرف القانون الدولي مفهوم الإخفاء القسري إلاّ في أوائل سبعينات القرن العشرين، في ضوء تعاظم هذه الظاهرة في دول أميركا اللاتينية، وكان يشار إلى المخفيين قسراً قبل ذلك، على أنهم "مفقودون".

أما منظمة الأمم المتحدة، فتطرّقت إلى هذه المسألة للمرة الأولى عام 1975. وأصدرت الجمعية العامة للمنظمة عام 1978 قراراً خاصاً، مهّد لإنشاء "مجموعة عمل خاصة بالإخفاء القسري". وبالفعل أُنشئت هذه الجمعية بقرار من اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في منظمة الأمم المتحدة عام 1980، وهي لا تزال قائمة حتى تاريخه. واضطلعت هذه اللجنة بمهام ميدانية في دول يُشتبه في وجود حالات إخفاء قسري على أراضيها، كما شكّلت أداة تواصل مع عائلات ضحايا الإختفاء القسري، وساهمت في وضع "الإعلان  من أجل حماية جميع الاشخاص ضدّ الاخفاءات القسرية" الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار رقم 47/133 تاريخ 18/12/1992، وقد شكّل هذا الإعلان- على رغم عدم اقترانه بقوة تنفيذية فاعلة- أرضية صالحة لإرساء مفاهيم وقواعد خاصة بالإخفاء القسري، ومهّد لإقرار "الإتفاقية الدولية لحماية جميع الاشخاص من الاختفاء القسري" الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20/12/2006. وقد عرّفت هذه الإتفاقية الإختفاء القسري على أنه: " الإعتقال أو الإحتجاز أو الإختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرّفون بإذن أو بدعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الإعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون". كذلك اعتبرت هذه الإتفاقية جريمة الإختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية، ووسّعت دائرة المسؤولية الناجمة عنها، ومحضتها الطابع المستمرّ، وأدرجتها ضمن الجرائم التي تتيح التسليم بين الدول، ونظّمت بالتفصيل مسألة المعلومات الشخصية ومسك السجلات وحق الإطلاع، وكرّست الحق في تشكيل منظمات وجمعيات ورابطات، وأنشأت "لجنة معنية بحالات الاختفاء القسري" ترفع إليها الدول الأطراف تقاريراً عن التدابير التي اتخذتها لتنفيذ التزاماتها.

وكذلك نصت المادة 7 من نظام المحكمة الجنائية الدولية على أن جريمة الإختفاء القسري هي جناية ضد الإنسانية.

 

ثانياً: التشريعات الداخلية

كرّس الدستور اللبناني المعدّل حماية الفرد من الإعتقال التعسّفي الحاصل خارج الحالات التي نصّ عليها القانون، وقد نصّت المادة 8 منه على ما يلي: " الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون ولا يمكن أن يُقبَض على أحد أو يُحبس أو يوقَف إلا وفاقاً لأحكام القانون ولا يمكن تحديد جرم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى القانون."

كذلك جرّم قانون العقوبات اللبناني فعل الحرمان من الحرية الشخصية، في المادة 569 منه.

 

II-      الوضع الراهن في لبنان            

 

بين 1975 و1990، اقتصرت معالجات عمليات الخطف والإخفاء القسري على "مراجعات"، من زعيم أو وسيط أو نافذ في غياب تام لمؤسسات الدولة الحامية لمواطنيها. وبعد انتهاء الأعمال الحربية عام 1990، وفي ظل إقرار قانون العفو العام عام 1991، بقي ملف المواطنين المخفيين قسراً خارج المعالجات وبقي بعيداً عن أولويات الحكومات المتعاقبة، مع العلم أنّ قانون العفو المذكور لا يحول دون الملاحقة، وقد اعتبر القضاء اللبناني - أكثر من مرّة - أنّ جرائم الخطف هي من الجرائم المتمادية التي لا يشملها العفو والتي لا تخضع للتقادم المسقط[1].

في مطلع عام 2000 وبضغط من لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين ومجموعة من منظمات المجتمع المدني، شكّل مجلس الوزراء لجنة تقصّي برئاسة ضابط أمني عُرفت "اللجنة الأمنية الأولى"، وقد رفعت تقريرها إلى الحكومة بعد ستة أشهر من تاريخ تشكيلها وخلصت إلى أنه لم يتبين وجود أي مخطوف على قيد الحياة على الأراضي اللبنانية لدى أي من الأحزاب أو التنظيمات اللبنانية أو السلطات السورية، وأوصت اللجنة ذوي المختفين باللجوء إلى القضاء المختص لإثبات وفاة هؤلاء المفقودين بصورة قانونية، برغم أن السلطات السورية أفرجت فيما بعد عن عدد ممن أعلنت وفاتهم، الأمر الذي زعزع مصداقية عمل اللجنة، مما جعل الأهالي في تحرّك دائم ومطالبة مستمرة فيما يتعلّق بهذه القضية.

وتحت ضغط الأهالي المستمر، شكّل مجلس الوزراء عام 2001 لجنة أخرى برئاسة وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية عرفت بـ "اللجنة الوزارية-القضائية-الأمنية الثانية" كانت مهمتها "تلقّي طلبات المواطنين الراغبين في المراجعة بشأن ذويهم الذين يُعتبَرون أنهم ما زالوا على قيد الحياة" وعل الرغم تلقّي اللجنة معلومات بخصوص 700 حالة اختفاء على الأقل، إلا أنها لم ترفع أي تقرير حتى تاريخه.

كما قدّم نوّاب استجواباً للحكومة في الأعوام التالية بموضوع المخفيين قسراً، إلا أن هذا الإستجواب لم يسلك طريقه إلى المناقشة وبقي دون جواب حاسم.

وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، شكّلت الحكومة لجنة مشتركة لبنانية-سورية للنظر في موضوع المفقودين برئاسة المدّعي العام الاستئنافي في بيروت، وتسلّمت هذه اللجنة لائحة بأسماء اللبنانيين الموقوفين في السجون العادية دون أولئلك الموقوفين في السجون العسكرية.

إن جميع المعالجات التي أتتها الدولة اللبنانية في موضوع الإختفاء القسري بقيت خجولة ولم تسمح، حتى الآن، بإقفال هذا الملف على أسس واضحة وفي ذلك شبه تخلٍّ من الدولة عن دورها في حماية مواطنيها وعن مسؤولياتها في تقديم أجوبة حاسمة ومنع استمرار انتهاك الدستور والقوانين وسائر المواثيق الدولية ذات الصلة.

 

 

 

III-    التوصيات

 

1.      تصديق لبنان علي الإتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري[2] التي وقع عليها بتاريخ 6/2/2007 والإعتراف بصلاحية اللجنة المعنية بحالات الإختفاء القسري لناحية تلقي شكاوى الأفراد الضحايا أو المتضررين، واستصدار التشريعات المناسبة لوضع أحكام تلك الإتفاقية حيز التنفيذ.

2.      الإنضمام للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لممارسة إختصاصها في جرائم الإختفاء القسري كجريمة ضد الإنسانية.

3.      إنشاء هيئة وطنية تواكب معالجة ملف المخفيين قسراً وملفات التذكّر، ولحين ذلك، دعم اللجنة المشتركة اللبنانية-السورية لوجستياً وفنياً وسياسياً لمتابعة أعمالها.

4.      بناء قاعدة الحمض النووي (DNA) على المستوى الوطني وتطوير تقنيات نبش المقابر الفردية والجماعية.

5.      إدراج موضوع الذاكرة ضمن الثقافة الوطنية، عبر الكتب المدرسية والمتاحف وإعلان 13 نيسان من كل عام يوماً للذاكرة لمن غُيبوا.



[1]  قرار محكمة جنايات جبل لبنان تاريخ 13/12/2001 وقرار محكمة جنايات الجنوب تاريخ 13/6/2003.

[2]  توصية وافق عليها لبنان في الإستعراض الدوري الشامل.