يمثّل الحق في العمل والضمان الإجتماعي وضعاً مركزياً في منظومة حقوق الإنسان لارتباطه بحياة وحيوية الإنسان وسبل كسب عيشه وأسرته والوفاء بجميع إلتزاماته في المسكن والمأكل والغذاء والكساء والتعليم والصحة والتنقل والمشاركة في الحياة الإجتماعية والعامة.

وتشكل العدالة الإجتماعيّة الركن الأساسي لاستقرار المجتمعات في مختلف أقطار العالم، ومن ضمن مكونات العدالة الإجتماعيّة نجد دائماً القوانين المنظمة للعمل وتلك المتعلّقة بالحماية والرعاية الإجتماعيّة التي تسعى الدولة الى تأمينها بأفضل السبل وأعلى الدرجات وبشكل خاص عندما يكون ذلك تطبيقاً للإلتزامات التي اتخذتها الدولة تجاه المجتمع الدولي من خلال الإتفاقيات التي إنضمت اليها.

ولربما أقل الصعوبات التي تواجهها الدولة في هذا المجال هي الكلفة الإقتصاديّة، كما وأنه على الدولة مراعاة مصالح متناقضة مثل مصالح العمَّال وأصحاب العمل، تضعها أمام مهمة صعبة جداً وهي المحاولة قدر المستطاع الوصول الى الهدف بإيجاد الحل الاكثر حفاظاً على لحمة واستقرار المجتمع ووصولا الى استيفاء الشروط المفروضة على الدولة بموجب الإتفاقيات الدوليّة التي التزمت بتطبيقها.

 

I-      الواقع القانوني

 

أولاً: التشريعات الدولية

صدرت، على الصعيد الدولي إتفاقيات وتوصيات عدّة ترمي إلى تأمين وصول المواطن الى حقّه بالعمل والضمان الإجتماعي من خلال تحديد شروط العمل، من أجر وساعات العمل والصحة، ومكان العمل والعطلات والراحة والتنقل.

وتتلخّص توصيات هذه الإتفاقيات بالتزام الدول إتخاذ التدابير الكفيلة لخلق بيئة توفّر أكبر عدد ممكن من فرص العمل للأفراد، على أن تكفل تلك الفرص تأديّة العمل بكرامة وضمن شروط صحّة وسلامة مقبولة، وعلى أن يكون اختيار العمل حرّاً.

من أهم النصوص الدولية في هذا المجال، نذكر: المادة 8 من العهد الدولي للحقوق المدنيّة والسياسيّة، المواد 6 الى 9 من العهد الدولي للحقوق الإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة؛ فضلاً عن إتفاقيات منظمة العمل الدوليّة ILO، وإتفاقيات منظمة العمل العربيّة.

وقد صدّق لبنان على عدد من هذه الإتفاقيات الدولية، نذكر منها: العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، العهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، إتفاقيات منظمة العمل الدوليّة ILO (وقد أنضم لبنان إلى 50 إتفاقية عمل دوليّة هي الإتفاقيات رقم 1، 8، 9، 14، 15، 17، 19، 26، 29، 30، 45، 52، 58، 59، 71، 73، 74، 77، 81، 87، 88، 89، 90، 95، 100، 105، 106، 109، 111، 115، 120، 122، 127، 131، 133، 136، 138، 139، 142، 147، 148، 150، 152، 159، 170، 172، 174، 176، 182، لا تزال 49 منها سارية المفعول بعد استبدال الإتفاقيّة رقم 15 بالاتفاقيّة رقم 138 عام 2003 إضافة إلى إتفاقيات منظمة العمل العربيّة (انضمّ لبنان إلى 7 إتفاقيات منها هي الإتفاقيات رقم 1 و9 و13 و15 و17 و18 و19).

وتساهم هذه الإتفاقيات في تحديد الشروط الدنيا التي يجب أن تتوافر في التشريعات الوطنيّة كي تعتبر الدولة ساهرة على تأمين ممارسة صحيحة وسليمة للحق بالعمل والضمان الإجتماعي.

 

ثانياً: التشريعات الداخلية

 

أ-الدستور اللبناني

كرّس الدستور في مقدّمته إهتمام الدولة بالوضع الإجتماعي وتعهّدها بتحمّل كامل مسؤولياتها على هذا الصعيد من خلال السهر على تأمين العدالة الإجتماعيّة والمساواة بين جميع المواطنين، وأيضاً من خلال تأمين الإنماء الإجتماعي المتوازن لكافة المناطق.

فنصت الفقرة " من مقدمة الدستور على أن " لبنان جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة تقوم على احترام الحريّات العامة وفي طليعتها حريّة الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الإجتماعيّة والمساواة بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل."

أما الفقرة " ز" فقد نصّت على أن "الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام."

وعلى الرغم من أن الدستور لم يحدّد كيفيّة تجسيد هذه المبادئ عملياً، إلا أن هذه المبادئ تشير إلى بعض الأمور التي تدخل في صلب التشريعات الإجتماعيّة، كعدم التمييز بين الرجل والمرأة في مجال العمل وصون حريّة العمل وخلق الحوافز لتأمين فرص عمل في كافة المناطق...

وتجدر الإشارة إلى أن مبادئ العدالة الإجتماعية والإنماء الإجتماعي المذكورة في الدستور ليست وحدها مصادر قانون العمل فيه، بل هنالك أمور كثيرة أخرى يتناولها الدستور وتترجم عملياً من خلال قانون العمل كاحترام حريّة التعبير الذي يشمل الإعتراف بالحريّات النقابيّة وحقّ الإضراب للمطالبة بالحقوق المشروعة، أو الإنماء الثقافي لكافة المناطق الذي يفترض تحظير عمل الاطفال وفرض حدّ أدنى من التعليم الإلزامي.

 

 ب- التشريعات العادية

-        قانون العمل الصادر في 23/9/1946.

-         نظام الموظفين الصادر في 12/6/1959 الذي ينظّم علاقة الدولة بموظفيها.

-         قانون عقود العمل الجماعيّة والوساطة والتحكيم الصادر في 2/9/1964.

-         قانون الضمان الإجتماعي الموضوع موضع التنفيذ بموجب المرسوم رقم 13955 تاريخ 26/9/1963.

-         مرسوم إنشاء تعاونيّة موظفي الدولة الصادر في 29/10/1963.

-        قانون حقوق الأشخاص المعوقين الصادر في 29/5/2000.

     بالإضافة إلى عدد من النصوص التكميلية والتطبيقية التي تعالج بعض النقاط الخاصة.

 

 

 

 

 

 

II-  الوضع الراهن في لبنان

 

أولاً: الصعوبات والتحديات

 

أ- على صعيد الحقّ بالعمل

-          عدم إدخال تعديلات حديثة على قانون العمل رغم مرور أكثر من 60 عاماً على إقراره مما يمنع من مواكبة التطورات الحديثة والأخذ بعين الإعتبار الحاجات الجديدة واضطرار وزارة العمل إلى تجاوز صلاحياتها في بعض الأحيان في محاولة لتصحيح الوضع وغالباً ما تكون النتيجة غير كافية.

-          تفاقم مشكلة البطالة مما يضطر اليد العاملة اللبنانية إلى الهجرة.

-          عدم وجود تفتيش جادّ وفاعل بسبب ضعف إمكانيات وزارة العمل، بالإضافة إلى بطء عمل المحاكم مما من شأنه تعطيل النصوص بسبب غياب الرقابة والمساءلة.

-          غياب الحريات النقابية الفاعلة.

 

ب- على صعيد الحقّ بالضمان الاجتماعي

-        عدم تطبيق أجزاء كبيرة من قانون الضمان الإجتماعي، على بعض الاشخاص المذكورين في مواده حتى اليوم بانتظار صدور مراسيم تطبيقيّة، في حين أُخضعت فئات أخرى لم تكن مذكورة أساساً فيه وذلك بموجب قوانين تعديليّة متعاقبة، كما تم تنفيذ الضمان الإختياري في بعض الحالات المحدودة.

-        عدم توفير أو تفعيل بعض التقديمات التي يؤمّنها الصندوق للمضمونين كتعويض المرض وتعويض الأمومة وفرع ضمان طوارئ العمل والأمراض المهنيّة أو التقديمات التعليمية، لعدم قدرة الصندوق على تحمل العبء المالي الناتج عن هذه التقديمات. وهذا الأمر يعود على نحو كبير إلى فقدان التوازن المالي للصندوق خصوصاً بعد أن تمّ تخفيض الإشتراكات دون أن تُتَّخذ تدابير كافية لتواكب هذا التخفيض كتحسين جباية الإشتراكات ومراقبة التقديمات منعاً من التلاعب.

-        تعدد أنظمة التغطية الصحيّة والإجتماعيّة إلى جانب الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي كتعاونيّة موظفي الدولة وأنظمة التغطية التابعة للقوى المسلّحة على أنواعها بالاضافة الى صناديق التعاضد وشركات التأمين، كما تغطّي وزارة الصحّة الأشخاص الذين ليس لديهم أي نظام تغطية، مع ما ينجم عن هذا التعدّد في الأنظمة من تأثير سلبي على الكلفة الإقصادية للأنظمة، وتفاوت في نطاق وشروط التغطية بين نظام وآخر.

 

ثانياً: الممارسات الرسمية

تسعى الدولة اللبنانية جاهدة الى تحسين الحقوق الإقتصادية والإجتماعية من خلال انضمامها المستمر إلى الإتفاقيات الدوليّة الحديثة والبرامج الإنمائيّة كبرامج مكافحة عمل الاطفال، غير أن الخطوة الأهم والمتمثّلة في تحديث القوانين الإجتماعية لم تقم بالشكل الكافي حتى الآن لأسباب عدّة منها سياسيّة ومنها إقتصادية.

إلا أن أبرز الخطوات التي قامت بها الدولة اللبنانية في هذا المجال حتى الآن هي:

-        إنشاء المجلس الوطني للعمل بموجب القانون رقم 21/65 الذي استُكمِل بالمرسوم رقم 6304 تاريخ 5/12/1966، والذي من شأنه تفعيل التشاور بين أصحاب العمل والأجراء وصولاً إلى تحسين شروط العمل والممارسات في هذا المجال.

-        إنشاء المؤسسة الوطنيّة للاستخدام بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 80 تاريخ 27/6/1977، التي تهدف إلى مكافحة البطالة، والمساهمة في تحسين تنظيم سوق العمل والقيام بالدراسات والأبحاث الرامية إلى تحديد السياسية العامة للإستخدام.

-        إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي بموجب القانون رقم 389 تاريخ 12/1/1995.

وذلك رغم أن هذه المؤسسات لم تقم بشكل فاعل.

 

III-      التوصيات

 

أولاً: على صعيد الحق في العمل

1.      تعديل قانون العمل لتعزيز التدابير القانونية الرامية إلى مكافحة بيع الأطفال والإتجار بالبشر وتعزيز التدابير المتعلقة بمكافحة عمل الأطفال في إطار الإستراتيجية الوطنية لمكافحة عمل الأطفال عن طريق دراسة أفضل الممارسات على الصعيد الدولي ووضع تشريعات محلية تتوافق مع المعايير الدولية وتعزيز التعاون مع المنظمات والهيئات الدولية في هذا المجال[1].

2.      تنظيم ع?قات العمل في إطار يحمي كرامة العاملين وحقوقهم بما يتلاءم مع المعايير الدولية، لاسيّما فيما يتعلق بالعاملين في الخدمة المنزلية وتعديل قانون العمل ليشمل العاملين في الخدمة المنزلية[2].

3.      مراجعة مختلف النصوص المتفرّقة والمشرذمة وجمعها في قانون موحّد وعصريcodifié  يأخذ بعين الإعتبار الحاجات الجديدة في ميدان العمل ويعيد إلى مختلف المواد وضوحها وشفافيتها بشكل يسمح للفرقاء وبشكل خاص الأجراء معرفة حقوقهم وموجباتهم بالسهولة الضروريّة لتمكينهم من المحافظة عليها.

4.      إنضمام لبنان إلى إتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 لسنة 1948 الخاصة بحرية العمل النقابي، والإتفاقية رقم 144 لسنة 1976 المتعلقة بمعايير العمل الدولية والإتفاقية رقم 155 لسنة 1981 المتعلقة بالصحة والسلامة في العمل والإتفاقية رقم 161 لسنة 1985 المتعلقة بالخدمات الصحية المهنية والإتفاقية رقم 187 لسنة 2006 المتعلقة بالسلامة والصحة المهنيتين  وتعديل أحكام قانون العمل بما يتوافق مع أحكام هذه الإتفاقيات.

5.      تنظيم سوق العمل بموجب قوانين بحيث لا يكون هناك تفاوت في الحقوق والموجبات بين القطاعات إن لم يكن يوجد مبرّر جدي ومعلّل لذلك (مثلاً على صعيد دوام العمل أو مدة الإجازات...).

6.      تفعيل وتعزيز المؤسسة الوطنيّة للإستخدام لمكافحة البطالة والمساهمة في الإرتقاء بسوق العمل وتحديد السياسة العامة للإستخدام.

7.      توجيه وزارة التربية والتعليم العالي الطلاب نحو اختصاصات جامعية متلائمة مع حاجات سوق العمل في لبنان.

8.      تفعيل أجهزة الرقابة والتفتيش التابعة لوزارة العمل.

 

ثانياً: على صعيد الحقّ بالضمان الإجتماعي

1.      إصدار قوانين تهدف إلى الحدّ من شرذمة أنظمة التغطية من خلال ضم العدد الأكبر الممكن إلى بعضه.

2.      تعديل قانون الضمان الإجتماعي لتوسيع ميدان تطبيقه بحيث يشمل المواطنين كافة على حد سواء.

3.      إصدار المراسيم التطبيقية بهدف تطبيق جميع الفروع الملحوظة في قانون الضمان الإجتماعي لاسيّما تعويض المرض والأمومة وضمان طوارئ العمل والأمراض المعنية.

4.      إصلاح التوازن المالي للصندوق الوطني للضمان الإجتماعي من خلال تكليف مؤسسة دراسات إقتصادية وإجتماعية عالمية متخصّصة لمراجعة حساباته واقتراح الحلول وإصدار المراسيم التطبيقية اللازمة.

5.      وضع أنظمة تقاعد عصريّة كنظام خاص بضمان الشيخوخة بخلاف تعويض نهاية الخدمة عبر إصدار قوانين خاصة بذلك.



[1]  وافق لبنان على هذه التوصية في الإستعراض الدوري الشامل.

[2]  وافق لبنان على هذه التوصية في الإستعراض الدوري الشامل.