بدأت الحقوق الثقافية تأخذ مكاناً محورياً على صعيد الحريات والحقوق الأساسية للمجتمعات التي تسعى لإقامة أنظمة أكثر عدالة واستقراراً واقتصاديات أكثر تطوراً ونمواً. وقد أصبح جلياً مدى ارتباطها بحقوق الإنسان الأخرى. ولكن وبالرغم من ذلك، تبقى الأقل إحاطة بالإهتمام والتطبيق، والأقل تبلوراً في نصوص ومواد قانونية نظراً لتعقد مجال الثقافة وشموليته.

 

I- الواقع القانوني

 

أولاً: التشريعات الدولية

أكدت الجمهورية اللبنانية صدق توجهاتها في هذا الصدد بالمصادقة على العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح لعام 1954 وبروتوكوليها لعام 1954، وإتفاقية اليونسكو بشأن حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972، واتفاقية اليونسكو لحظر ومنع استيراد وتصوير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة لعام 1970، واتفاقية اليونسكو حول صون التراث الثقافي اللامادي لعام 2003 واتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لعام 2001، إتفاقية حماية تنوّع أشكال التعبير الثقافي وتعزيزها التي اعتمدها المؤتمر العام لليونسكو في دورته الـ33 في تشرين الأول/أكتوبر 2005. ما يؤكد الحرص على مراعاة الحق في الحياة الثقافية. كما نصت اتفاقية الطائف للوفاق الوطني على التوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً

 

 

ثانياً: التشريعات الداخلية

تنص وثيقة الوفاق الوطني، في جزئها الأول على أن التنمية المتوازنة للمناطق على المستوى الثقافي والإجتماعي والإقتصادي هي دعامة أساسية لوحدة الدولة واستقرارها. وتكرّس مقدمة الدستور اللبناني، احترام الحريات العامة، و لاسيّما حرية الرأي والعقيدة، والعدالة الإجتماعية، والمساواة بين المواطنين. ومن جهة أخرى، تكرس المادة 10 من الدستور حرية التعليم وحق الطوائف الدينية في أن تكون لها مدارسها الخاصة. وأخيراً تكرس المادة 13 حرية الرأي، وحرية الصحافة ، وحرية الإجتماع وتكوين الجمعيات.

 

II- الوضع الراهن في لبنان

 

أولاً: التحديات والصعوبات

        ما زالت الطريق أمام تحقيق المشاركة الفعلية في الثقافة للمواطنين اللبنانيين طويلة. فبالرغم من كل الإنجازات والمكتسبات، وبالرغم من تصديق لبنان على المواثيق الدولية التي تصون هذا الحق، وإدماج بعضها في الدستور اللبناني، الا أن الأزمة الإقتصادية، وانعكاسها تفاوتاً حاداً في مستوى حياة شرائح واسعة من اللبنانيين، يحتّم تدخّلاً ما لتضييق فجوة عدم تكافؤ الفرص الحاصل، وهو أحد أهم أسباب الخلل في مراعاة هذا الحق الإنساني الهام. والمسؤولية في ذلك لا تقع، في ظل الأوضاع السياسية والإقتصادية المعروفة، فقط على السلطة، وانما أيضاً على شركاء الإنتاج.

 

إن صناعة الكتاب في لبنان مزدهرة في مختلف مراحلها، إلا أن كلفة الكتاب لا تزال مرتفعة نسبياً، في أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، ما يفسّر تدني نسبة القرّاء في بلاد لا تعاني مشكلة أمية. وتتفاقم هذه المشكلة كثيراً اذا ما تحدثنا عن الكتاب الأجنبي، وقد يكون دعم انتشار المكتبات العامة حلاًّ مرحلياً معقولاً لهذه المشكلة. كما تبرز مشكلة أخرى تتمثل بكلفة الطباعة والنشر، التي تمثل عائقاً أمام الشباب، غير المحظي في التعبير عن أفكاره وطباعة وتوزيع ما يرغب دون المرور بمتموّل.

أما في ما يتعلق بوسائل الإعلام، فإن تعميم الثقافة والمعرفة لم يُعنِ وسائل الإعلام المختلفة في لبنان، لأن هذه الوسائل لم تعمد الى إدخال الثقافة مادة في برامجها، وذلك بالرغم من المحاولة التي سعت اليها الحكومة عندما وضعت قانون الاعلام المرئي والمسموع، الذي لم يتم الالتزام ببنوده بشكل تام. كما تقصّر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية كثيراً في تلبية حق وصول الشباب إليها، حيث لم تنتشر بعد في مجتمعاتنا ثقافة الحوار الديموقراطي التداولي لمجموعة ما حول مسألة محلية ما ولم تشجع وسائل الإعلام على هذا السلوك الراقي، وبقيت المساحة المعطاة للتعبير عن الآراء نادرة وغير فاعلة.

أما لناحية الإنترنت، فالحق في الثقافة يفترض جعله متوافراً مجاناً في المدارس والجامعات والمكتبات العامة مع الإشارة إلىأن بعض الجامعات الخاصة تؤمن ذلك.

من ناحية الفنون هناك نقص فادح في عدد المسارح (وبعضها أغلق حديثاً)، كما يكاد يخلو الريف اللبناني من المسارح تماماً، الأمر الذي يحرم شرائح واسعة من الجمهور من المتعة والإفادة، ويجعل من هذا الفن فناً نخبوياً بامتياز ما يتنافى وحقوق الإنسان بالمشاركة في الحياة الثقافية. من ثم ينعكس هذا النقص في المسارح سلباً على عدد الفرق المسرحية المحترفة، وعلى فرق الهواة، ويصعّب الأمر على المنتجين على ندرتهم. أما الرسم والفن التشكيلي فبقي الإهتمام بتعليم الرسم في المدارس اللبنانية أمراً ثانوياً، ولم يعطَ الإهتمام الذي يستحق، إن من حيث ساعات الممارسة أو من حيث أعداد الأساتذة وتوفير التجهيزات. أما الموسيقى فإن تعليم الموسيقى مؤمّن من قبل معاهد خاصة أو بعض الجامعات، وخصوصاً من قبل المعهد الوطني للموسيقى  إلا أن المعهد يعاني أيضاً من ضآلة الميزانية المخصّصة له مما يؤدّي أحياناً إلى تأخير في تسديد أجور العازفين والمعلّمين.

ولناحية الآثار، تشكل السياحة الثقافية عصباً أساسياً للسياحة في لبنان. وقد بادرت المديرية العامة للآثار التابعة لوزارة الثقافة الى تنظيم الحفريات الأثرية وأعمال التنقيب وتنفيذها، واستكشاف المواقع الأثرية، وصيانة الأبنية التراثية، وإلى إنشاء المتاحف وإدارتها وتنظيم المعارض الأثرية والتاريخية، وإلى مكافحة تهريب الآثار والإتجار بها. إلا أن بعض المعالم التاريخية لا يزال مهملاً أو غير مستثمراً على الشكل المطلوب، كما أن كلفة دخول هذه الأماكن السياحية ودخول المتاحف على اللبنانيين أنفسهم تشكل خرقاً للحق في الثقافة في حين يجب أن تكون كلفة ارتياد هذه المعالم الوطنية على المواطنين مجانية أو بأسعار رمزية، هذا مع العلم أن وزارة الثقافة تقوم ، بالتنسيق مع جمعية التراث، خلال شهر أيار من كلّ عام، بإحياء يوم التراث فتفتح أبواب الأماكن الأثرية والتاريخية والمتاحف مجاناً أمام جميع المواطنين .

 

ثانياً: الممارسات الرسمية

تلعب وزارة الثقافة دور محوري على صعيد تنشيط الحياة الثقافية وتيسير الحق في المشاركة في الثقافة. ولكن كسائر الإدارات والوزارات، في ظل الأزمة الاقتصادية، تعاني هذه الوزارة من ضآلة ميزانيتها التي تنعكس ضعفاً في أجهزتها وفريق عملها وعجزاً في حركتها. مع ذلك فقد استطاعت الوزارة أن تضع سياسات دعم لمختلف المجالات الثقافية. فأعادت الى الحياة ونظمت دار السينما الوطنية والمكتبة الوطنية والمديرية العامة للآثار وعدد كبير من المصالح. وأطلقت سياسة دعم الإنتاج السينمائي، وسياسة دعم المطالعة العامة، وسياسة دعم التأليف ونشر الكتب، وسياسة دعم العروض المشهدية. ولكن بقيت هذه المشاريع الطموحة تحتاج بشدة الى الدعم المادي لتؤتي ثمارها. وقد يكون من المناسب اعتماد الوزارة كشريك في كل الأنشطة الثقافية، ما قد يضفي طابع الصدقية على هذه النشاطات ويشجع أطرافاً داخليين وخارجيين على تمويل هذه المشاريع الى جانب البلديات وهيئات المجتمع المدني.

كما بادرت وزارة الثقافة إلى وضع سياسة دعم التأليف ونشر الكتب بغية تعزيز القراءة لدى المواطنين وتشجيع التأليف والنشر ومساعدة دور النشر على تخطي الصعوبات الاقتصادية المرحلية. ولجأت لتحقيق ذلك الى شراء بعض الكتب والمؤلفات. وقد وضعت قواعد جيدة لذلك منها شراء كتب موجهة للجمهور الواسع لتوزيعها على المكتبات العامة الشريكة للوزارة .

ومن أولويّات وزارة الثقافة إحياء المكتبة الوطنية، فخصّصت لها مبنى كلية الحقوق والعلوم السياسية في الصنائع بعد إهمال كبير تعرضت له لسنوات مديدة، وهي تسعى اليوم الى إعادة تأهيلها بهبة من المجموعة الأوروبية وهبة قطرية، بعد أن أنجزت عملية تنظيف الكتب وفرزها وفهرسة العدد الأكبر منها.

ومن أهم المشاريع التي تستجيب لحق الانسان في الثقافة، إنشاء مكتبات عامة توفر على القارئ كلفة اقتناء الكتاب. وقد لحظت وزارة الثقافة هذا الأمر عندما وضعت سياسة دعم المطالعة العامة فعملت على دعم وتطوير وانشاء المكتبات العامة ومراكز المطالعة والأنشطة الثقافية (CLAC) في مختلف المناطق اللبنانية.

وقد بادرت وزارة الثقافة الى وضع سياسة دعم المسارح الدائمة لمساعدتها على الإستمرار، ودعم الفرق المسرحية بعد تقييم الأعمال المقترحة ومساعدتها على الإشتراك في المهرجانات العالمية، كما بادرت إلى دعم مسرح الأطفال ودعم الإستعراضات الراقصة، إلا أن هذه المساعدات بقيت رمزية ولم ترقَ الى المستوى المطلوب للنهوض بهذا القطاع. ولجأت، في مرات عديدة، الى شراء بطاقات عروض لمسرحيات وتوزيعها على طلاب المدارس الرسمية، لتعميم الفائدة على المسرح والطلاب، وقد لاقت هذه المبادرة ترحيباً كبيراً من قبل المدارس والأهل .

 

III- التوصيات

 

1.      التصديق على نص الاتفاقية العالمية بشأن تعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي (اتفاقية اليونسكو لعام 2005).

2.      مواءمة أحكام الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها لبنان مع القانون الوطني.

3.      إقرار قانون حديث للتراث الثقافي المادي في لبنان يشمل الحفريات والأبنية التراثية، تجارة الآثار وحماية الآثار المغمورة بالمياه.

4.      وضع وزارة الثقافة لخطة ثقافية شاملة منسجمة مع الحقوق الأساسية للإنسان.

5.      أهمية إدخال التراث العالمي في البرامج التربوية حيث يتم التأكيد عليها في القسم السادس، المادة 27 من اتفاقية التراث العالمي (1972) والتي تدعو جميع الدول الأطراف إلى "السعي بكل الوسائل المناسبة، خاصة بمنهاج التربية والإعلام على تعزيز احترام وتعلّق شعوبها بالتراث الثقافي والطبيعي".

6.      تطوير وتوسيع البحث العلمي والثقافي عبر إنشاء مراكز أبحاث ذات موازنات جدِية، وهذا يتضمن تفعيل دور مركز البحوث العلمية ورفع موازنته.

7.      تطبيق قانون الملكية الفكرية احتراماً لحق الملكية تبعاً للدستور اللبناني والمادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

8.      ترتيب هيكلية وزارة الثقافة وزيادة ميزانيتها بصورة ملحوظة لتمكينها من مواجهة التحدّيات وتأمين حق المواطن في المشاركة في الحياة الثقافية بصورة فاعلة.

9.      إعادة النظر في مسألة الرقابة في لبنان وتحويل سلطة الرقابة من الأمن العام إلى وزارة الثقافة أو إلى هيئة تضمّ مثقفين ورجال قانون للبتّ في هذه الموضوعات.

10.  استحداث "بطاقة الطالب" للصفوف المتوسطة التي تخول الطالب الاستفادة من حسومات عند زيارة المعارض والمسارح والسينما والمهرجانات الثقافية والمتاحف.

11.  المثابرة على إجراء المسابقات الأدبية وإنشاء جوائز في مختلف المجالات الفنيّة.

12.  تأمين المنح المدرسية والجامعية للمتفوقين.

13.  حثّ وسائل الاعلام على زيادة ساعات تغطية النشاطات الثقافية وبث البرامج الثقافية وعلى الإلتزام بقانون البثّ التلفزيوني والإذاعي (قانون رقم 382/1994) الذي يلزمها بتخصيص برامج للثقافة والتراث والمسلسلات المحليّة.

14.  زيادة ميزانية دعم الأعمال المسرحية والأعمال السينمائية المحلية.

15.  شراء بطاقات عروض للأعمال السينمائية والمسرحية الجيدة وتوزيعها على الطلاب.

16.  تطوير معهد المسرح في الجامعة اللبنانية.

17.  شراء لوحات الفن التشكيلي لتشجيع الفنانين.

18.  تنفيذ المخطط التربوي الذي يدعو للإهتمام بالفنون الجميلة.

19.  الإهتمام بالمتاحف والأماكن الأثرية والتراثية وتخفيض كلفة ارتيادها لللبنانيين.

20.  دعم قطاع النشر، لاسيّما في مجال الشعر، عن طريق شراء مسبق لعدد من الكتب التي يتمّ توزيعها لاحقاً على المراكز الثقافية في المناطق، كما تأمين حضور الناشرين اللبنانيين في معارض الكتب في الخارج عبر جناح مشترك .

21.  زيادة عدد مراكز المطالعة والأنشطة الثقافية (CLAC) في مختلف المناطق.

22.  تفعيل المكتبة الوطنية وتأمين الدخول إليها مجاناً إلى الطلاب.