كلمة الرئيس بري في "المؤتمر الدولي في فكر العالمين الكبيرين: الشيخ عبد الله العلايلي والشيخ محمد جواد مغنية"، في قصر الاونيسكو


 

ألقى رئيس مجلس النواب نبيه نبيه بري كلمة في "المؤتمر الدولي في فكر العالمين الكبيرين: الشيخ عبد الله العلايلي والشيخ محمد جواد مغنية"، في قصر الاونيسكو، جاء في نصها:

"كنت سأسلك طريق الجواب على سؤال: اين الخطأ؟ ولكن رأيتني مشدودا الى عنواني المناسبة الشيخين الجليلين العلامة واللغوي الشيخ عبد الله العلايلي والعلامة المعرفي الشيخ محمد جواد مغنية، في استنباط اجوبة على سؤال اين الصواب في الكثير من المسائل الدينية والدنيوية.

وهكذا رأيتني أتسلل من جراح الوقت والضغوط واغلق علي الابواب بعد انصراف المساءات والناس، وافتتح مكتبتي على انهر العناوين الكثيرة في كتب الشيخين، فأراني اسكن الى حديقة الامل، وأرى لغات البكاء التي احاطت بأيامي تتجلى وتردم عتمها ويهل من احداقها النور، وارى المفردات تستفيق على عذوبة المعنى وابعاده العقلية.

يوما بعد يوم صرت ارى الله معرفة وحقا ولمست كيف يستحيل الانسان في كلية الايمان الى شجرة متقدمة في العواصف، وصرت ارى الحرية مزدهرة والعدالة تزهر بالضوء كعين الشمس.
يوما بعد يوم وجدتني وقد اخذتني سلاسة النص والمعاني والبلاغة الانيقة المتوارية خلف الف باب وباب، قد تشيعت بما ذهب اليه الشيخ العلايلي من حب الحكمة والمعرفة والعبور الى النور، وما ذهب اليه الشيخ مغنية في بحثه عن الحياة التي توفر الخصب والامان والعلم.

للشيخ العلايلي جسر الحداثة والتجديد القائم بين الامس واليوم والغد وهو يعالج في ابداء يعد قديما قديما بأنه الجديد الجديد، وهو يعالج بنظرات شرعية جديدة بعض متفرقات من تحديات عصرية.

لبيروت بيت ومكتبة وصومعة وريشة ومحبرة وكتاب الشيخ عبد الله العلايلي، لبيروت المدينة ميناء الشرق ومجتمع أهل العلم والأدب والفكر، والتي هيأت لنهضة الشيخ مصطفى الغلاييني والشيخ عبد الرحمن سلام، ولبيروت صومعة الإمام الأوزاعي.
للشيخ محمد جواد مغنية الذي كان كالوقت لا ينعس ولا يستريح، ممسكا لوحات بأصابع عينيه، او ممسكا ريشته هو ينحت مخطوطاته متحكما في كل كلمة الى العقل والاسلام والقرآن الكريم.

لشيخ عامله الذي قسى عليه الزمن كما على الشيخ العلايلي، فسكنها الالم والكآبة في بيروت التي كانت محكومة الى القلق والغموض، كما في جيل الصبر الجائع العطشان المضطهد من الاعداء والمهمل من المسؤولين.

لشيخ عامله حمل نفسه على نفسه دون اوارق ثبوتية، ودون ما يسد به الرمق الى النجف الاشرف، كما حمل شيخ بيروت نفسه الى قاهرة المعز.
للشيخين ولكم وللجمهورية الاسلامية في ايران الف تحية وبعد، فأني بداية اتوجه بالشكر الخالص الى اللجنة المنظمة لاسبوع الوحدة الاسلامية على تكريمي برعاية هذا المؤتمر الدولي في فكر رائدي التغيير والاصلاح والوحدة العالمين الكبيرين الشيخ عبد الله العلايلي والشيخ محمد جواد مغنية.

كما اتوجه بالشكر ثانيا الى المستشارية الثقافية للجمهورية الاسلامية الايرانية في لبنان، والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية وتجمع العلماء المسلمين لسببين:
السبب الاول: احياء الاثار الفكرية للشيخين.
السبب الثاني: اندفاعي الشخصي الى قراءة معمقة لهذه الاثار وهو الامر الذي اكسبني معرفة اكثر بالله والاسلام وبالانسان وبالوطن وبالعروبة وخاصة القدس.

كثيرة الاسماء التي انطفأت في التراب وسدل عليها الموت ستار العتمة، الا ان الاسماء التي تبقى هي تلك التي تستيقظ في عقولنا وقلوبنا وتتواصل فينا خطا ونهجا ومبادىء، ترتكز على عوامل التقريب، وعل صناعة وبناء الوحدة الاسلامية بمواجهة الوقائع الراهنة والتحديات المستقبلية، وهو ما دأب عليه الشيخان، حيث اكد ان الوحدة، وحتى تكون نهج حياة مستمرة، يجب ان تصنع وتبني على مبادىء القرآن الكريم والسنة والشريعة والاهداف المشتركة.

ان الانتباه الان وفي هذه اللحظة السياسية لعقد هذا المؤتمر على اسم شيخين توحيديين لهما سيرة علمية اصلاحية مشرقة، امر يستدعي الشكر والتنوية بمواجهة استراتيجية الفوضى البناءة، المستمرة في بث التوترات الطائفية والمذهبية والتي تحاول الوقيعة بين اصحاب الديانات السماوية ومذاهبها وبين الدين الواحد.
اننا نتعلم من الشيخين الجليلين ومن مدرسة الوحدة والتقريب التي اسساها على مساحة الجغرافيا والناس من الازهر الى النجف الى قم ومن بيروت الى جبل عامل. وكما نتعلم من الامام الذي حمل راية الامل وسلك طريق امل الامل والخط نفسه واقصد سماحة الامام السيد موسى الصدر، نتعلم ان القرآن يؤكد على وحدة الاديان بل ويجزم بذلك، وان الله واحد لدى جميع الاديان وان مفهوم الله عند الاسلام هو التطور والشمولية، وان التشيع والتسنن هما من نبع واحد وكتاب واحد ونبي واحد.

كما نتعلم في نفس المدرسة ان الانسان خليفة الله، وقد خلقه حرا ليتمكن من العلم والمعرفة، ونتعلم من الشيخ العلايلي ان الاسلام يحترم الانسان بذاته اي من حيث كونه انسانا، ونتعلم من الشيخ مغنية ان الصراع في لبنان هو بين الصهيونية والوطنية، لا بين الإسلام والمسيحية، ونتعلم من الامام الصدر ان الشيخ هو رؤية وسلوك يتجاوز في ابعاده الاجتهادات الفقهية او الاراء الكلامية او المواقف السياسية، وان التشيع هو التزام بالخط الاسلامي العام، وانه لا يمكن ان تفوح من الشيعة رائحة الفئوية المذهبية والانفصال عن الامة بل ان الشيعة يمتلكون رؤية الطليعة المناضلة في الامة وانهم بذلك ينسجمون مع كل موقف صريح ضد الظلم وكل حكم ظالم وكل استعمار وكل احتلال.

تلكم هي مدرسة الشيخين ومن سلك طريق تصحيح المفاهيم والتجديد، ومن تحرك في أثرهما لزحزحة باب موصد، ومن تمسك بأكرم تعبير في معجز التنزيل: قل هذه سبيلي، أدعو الى الله على بصيره.

وبعد وبعد، يكفي شيخ اللغة شيخ بيروت والقاهرة أنه انتبه الى خداع الالفاظ والى الأوهام في الأحكام، وانه تجرأ على محاولة رسم الحدود الجزائية، وانه تجرأ قبلنا على سؤال أهلال هو أم طلسم الباب المرصود؟ وها نحن يا شيخنا لا زلنا متحيرين متى نصوم ومتى نفطر، والقمر كما قلت أبجدية فلكية وقد بات حسبانه مع التقدم العلمي أبسط من حرف في اللالف باء، وما ظنك بمن غدا يحسب في كسر حساب الجزء من مليون جزءا من الثانية؟ ونظل بعد ذلك عند عتبة البحث البدائي هل رؤي أم لا؟ وهل تثبت بداية الشهر أم لم تثبت، وهل نعيد معا أم لا نعيد؟

ثم ها نحن أيها الشيخان لن نترك أمركما الى استراحة، حيث ما زلنا لم نقطع المسافة الطويلة بين الصبر المرير وسراب الماء ولا زال سمو المعنى في سمو التراث، أو أشعة من حياة الحسين - لا تزال - وكأنه مهدور في عالم يتناهشه نظام أحادي، وفي عالمنا المسكون الى أنماط لها أول وليس لها آخر من أنواع السلطات التي لا تنفك تسقط في كل امتحان من الجنوب الى غزة الى العراق, وغدا لا أدري؟ من يدري ماذا يحمل من الغد غير شبهة الدولة المنزوعة السيادة في فلسطين، وشبهة الديمقراطية وحلم الدولة في لبنان، وحروب الاستتباع والجهات التي تفتك بالسودان، والدولة المفخخة في العراق؟

ثم ها نحن نقف عند آخر حدود...عن اللاصق الأخير في ما بيننا عند اللغة...
ها نحن نحمل نعشها ونمشي في جنازتها وقد قتلناها تماما، إلا أنها مازال بها قبس من روح تحفظه لغة القرآن العربية.

وها أنتما أيها الشيخان منتبهان تماما الى آخر نسمة لغة متروكة على حدود أوطاننا, عنيت لناحية فلسطين، وعلى حدود مجتمعاتنا حيث تنزل الناس تحت خط الفقر.

ها أنتما وقد أسستما لثورة في التشريع الاسلامي.

وها أنتما وقد أسستما لمدرسة التجديد في الفقه على ضوء فهم النص بما ينسجم مع المرحلة.

ها أنتما وقد فتحتما الباب لمنهج عقلي لفهم التاريخ ومعالجة قضايا التاريخ بما ينسجم مع واقع الناس.

ها أنتما مندهشان لحالنا وما نحن فيه، حيث لم ننتبه الى دور الزمان أو المكان في الاجتهاد عندكما، فأصبحنا وكادت الجغرافيا أن تضيع وكاد الوقت أن يهدر، لولا ان كلا منكما يشير الى اجتهاد في معجمه الكبير حيث تقيمان الدليل على المشاركة والاشتراك.

يبقى أيها الشيخان أننا في لبنان نقترب يوما بعد يوم من استحقاق انتخابي نريده أن يعبر عن نهج حياة، ويريده البعض أن يعبر عن عملية كسر عظم، ولبنان لا يحتمل لي الأذرع ولا التطاحن.

ها نحن نستدعي حضوركما في هذه اللحظة الوطنية من أجل الوحدة ومن أجل أن نكون شركاء في الوطن، ومن أجل بناء الحياة التي توفر الخصب والأمان والعلم والحرية والعدالة والمساواة.

وها نحن نؤكد على ما ذهبتما اليه من أجل إعلاء شأن المسلمين ارتكازا على قاعدة: لا نجاح بلا تخطيط بدءا بالتخطيط لعلاقة الفرد بربه الى علاقة الفرد بمجتمعه وتجاه عدوه وردع العدوان، وللحكم العادل وللتربية والثقافة, ثقافة تبني المقاومة.

يبقى أن تلتزم القاعدة التي هي موجودة بصورة علنية وفي ثنايا كل الكلام، وهي القاعدة التي نتجرأ بها على غدنا من أن لا حياة للحق بلا قوة, ولا قوة من غير اتحاد.

وها نحن نستدعي حضوركما من أجل ترسيخ علاقات الثقة العربية - العربية، سائلين الله أن تكون قمة الرياض مقدمة لقمة تأسيسية في قطر تعيد الى الأمة حضورها في نظامها العالمي وتؤكد للعالم أنه لا يمكن كسر الاجماع العربي على أن قضية العرب المركزية هي قضية فلسطين، وانه لا يمكن إنشاء خطوط تماس بين العرب وبين جوارهم الاقليمي الاسلامي، خصوصا الجمهورية الاسلامية في ايران وتركيا لحساب أحد، وتكرار انموذج حرب العراق الأولى التي استهلكت موارد المنطقة.

اننا ومن أجل حفظ التراث الكبير للشيخين، ولأننا نحتاج الى تعميم الثقافة الاسلامية حول المواضيع التي عالجاها، سواء التي تناولت وحدة الأديان ومسألة الايمان والعبادة والعبودية وقصة العلم والمقاومة والاستشهاد في سبيل الحق، أؤكد ضرورة بناء علاقة التكنولوجيا بالمجتمع وبنشر تلك المعارف على الانترنت، ووضعها بتصرف الجيل الطالع.

ويبقى وعلى ما ذهب اليه الشيخان أن نؤكد أنه لا يستطيع المرء أن يكون مسلما وأن يكون محتكرا في الوقت نفسه، ولا يستطيع المرء في موقع من مواقع السلطة الأسرية أو المجتمعية أو السياسية أو الاقتصادية أن يسيء استعمال السلطة أو أن يتعسف في استعمال سلطته أو أن يهمل سلطته ثم أن يكون مسلما.

الحضور الكريم، إذ أجدد الشكر للجنة التحضيرية لهذا المؤتمر، فإني أحيي هذا الانتباه الذي نلمسه في لبنان للكبار الكبار، بالأمس العلامة والأديب عبد الله لحود، واليوم وقوفنا على منبر الشيخين العلايلي ومغنية، وغدا ربما يحمل الينا مبادرة بتكريم ابن صور اللغوي المترجم يوسف رضا والبروفسور عبد الحوراني اللذين ماتا بصمت وكأنهما مقطوعان من شجرة.

إنني بالطبع لا أخلط بين مهمة هذا المؤتمر الدولي الذي نتمنى له النجاح والاستمرار في استنفار عناصر التقريب وعوامل الوحدة، وبين مهمة المنابر الجامعية والثقافية المعنية بتكريم رجال العلم والقانون. وأشكر بالنهاية جمعية الامام الصادق أيضا.

يبقى أن أقدم التهاني للبنان، لأنه في زحمة الانتخابات والتوتر ينعقد هذا المؤتمر الذي يتسم بالحكمة واللغة والشريعة والهدوء وهو أمر يمثل مصلحة لبنان".