مرة
في كل عام نقف في مثل هذا الاحتفال في حضرة ابراهيم عبد العال.
ومرة
في كل يوم، بل مرات كل يوم، يقف أمامنا إبراهيم عبد العال وهو يحاول إيقاظنا من
سباتنا وترشيدنا إلى استعمال المياه،
وعدم
تصديق
الاعتقاد السائد بأننا أغنياء وبأن ثروتنا المائية تفيض عن احتياجاتنا.
مرة
في كل لحظة يهب إبراهيم عبد العال في وجوهنا لنصدق، بأننا في ذات لحظة سنمد أيادينا
لنشحذ شربة ماء لنروي عطشنا قبل أن نروي حدائق منازلنا ومزروعاتنا.
وبالرغم
من
ذلك فإن هناك في لبنان من لا يؤمن ومن لا يصدق، ومن لا يستعجل في الاستثمار على
تخزين كل قطرة ماء بيضاء للأيام السود
التي قد تأتي.
أقول
ذلك، لأنني وأنا أراجع ملف البقاع ومعاناته ومشكلاته قبل أيام، اندهشت وأنا أرى أن
هناك مدناً وبلدات وقرى انتظرت إلى مطلع الألفية الثالثة وهي دون شبكات للمياه ودون
خطوط دفع أو جر أو خزانات، في حين أن سهل البقاع ينبسط بين سلسلتي جبال تكلل هامتها
الثلوج وتغطي مساحاتٍ كبيرة منها في أغلب أشهر السنة، وان البقاع إضافة إلى أنه
منبع الليطاني والعاصي فإنه يضم عشرات الينابيع ومخزوناً هائلاً من المياه الجوفية.
أقول
اندهشت ليس لسبب هذه القسوة المتمادية للعهود التي جلدت الناس بكرباج العطش منذ
الاستقلال فحسب، بل لأن الحكومات في كل عام تبالغ وهي تجعل مواطنيها يعيشون كوابيس
الرعب من العواصف والسيول، بدل أن تبادر إلى إنشاء البرك الجبلية والسدود التي توفر
تحول اللبنانيين إلى مواطنين برمائيين وتوفر لهم المياه لري مزروعاتهم في فصل
الصيف.
تُرى
متى ستنحاز الحكومات إلى الوقت وتعرف قيمة استخدام الوقت لمصلحة مواطنيها في تنفيذ
المشروعات التي تحمي ثرواتهم الوطنية، والتي تؤمن لهم فرص العمل وتُمكنهم وتوسع
خياراتهم.
تُرى
متى نؤمن ونصدق أن إدارة الثروات المحلية الوطنية بشكل علمي أمر يفتح الباب ليس لحل
الأزمة الاجتماعية ـ الاقتصادية فحسب،
بل لازدهار الإنسان في لبنان.
تُرى
متى سنقف جميعاً في مثل هذا الاحتفال في حضرة إبراهيم عبد العال ونحن نرفع رؤوسنا،
بل ونتطاول فخورين على رؤوس أصابعنا لأننا سلكنا الطريق الصحيح إلى مشروعات كبير
المهندسين العرب تلك المشروعات التي ستنهي كربلاء عطشنا إلى الأبد، وتلك المشروعات
التي لا تجعلنا ننتظر بواخر الفيول لمحطات الإنتاج الكهربائية.
هل
تُرانا سنقف وقفة العز تلك ؟
هل ترانا سنتعلم من سليم لحود ؟ هل ترانا سنتعلم من موريس الجميل ؟
أم
تُرانا دائماً نخاف من أن نقوم بمبادرة لحفظ حقوقنا المائية حتى لا تنكسر الجرة مع
إسرائيل ؟
أم
تُرانا نصدق أن حدود الأنهار ومجاري المياه هي حدود عصبيتنا وفئويتنا ومناطقيتنا
فلا نريد أن نتجاوزها حتى لا نتقاتل على حدود الماء والعين.
أقول
ان بعضنا لم يتجاوز عقدة الخوف من إسرائيل رغم ان لبنان أثبت بمقاومته وصموده
ووحدته الوطنية المستمرة
عجز القوة الإسرائيلية عن احتلاله أو الهيمنة عليه، كما ان بعضنا لا يريد ان يتجاوز
عقدته إلى الضفة الأخرى من النهر ليرى ان أهل القاطع الآخر لبنانيون مثله، ويحبون
وطنهم أكثر
منه ان لم يكن مثله
ويطمحون ان تطفئ المياه الجارية نار جليد الحروب الباردة على محاور الطائفية
والفئوية والجهوية،
وكذلك
فإنه لا بد من الاعتراف بأن هناك قِصر نظر في رؤية أهمية الاستثمار على ما وهبه
الله لبلدنا ليس من جمال الطبيعة ومن تراث إنساني لكل الحضارات المتعاقبة فحسب،
وإنما كذلك من موارد طبيعية يمكن ان تجعلنا في غنى عن الاستمرار في لحس المبرد،
ونحن نشد الأحزمة من أجل خدمة الدين العام وتقليص عجز الموازنة.
أنا
من جهتي ومن موقعي
أسعى إلى تحقيق هذه
العدالة الاجتماعية التي لن تتحقق الا بتحقيق العدالة في التنمية، أقول اننا لن
نألو جهداً في العمل لتفسير حلم،
بل أحلام الشهيد إبراهيم عبد العال الوطنية، التي يستفيد منها كل لبنان وليس
جغرافية محددة من لبنان، وليس طائفة او فئة محددة من لبنان.
وأقول
الشهيد إبراهيم عبد العال لأن كل لبناني مخلص وكل عربي مخلص يجب ان يدرك ان ابراهيم
عبد العال ليس شهيد الليطاني فحسب،
بل هو شهيد لبنان، لأن إسرائيل كان هدفها ولا يزال ليس منع ازدهار لبنان فحسب بل
منع تشكله كمنافس محتمل في أي نظام إقليمي محتمل، وهي حاولت اغتيال بلدنا عبر
إذكائها لنيران الحرب الأهلية فيه، وعبر اجتياحها ومحاولة إلقائها القبض على نظامنا
وقرارنا السياسي، وعبر محاولتها جرّ لبنان إلى توقيع صك استسلام وتسليم لنظامه
الأمني، وعبر محاولات استغفالنا بسرقة مياهنا أمام أعيننا وبعد ذلك عبر حروبها ضد
لبنان، والتي كانت قانا من أبرز علاماتها.
لقد
اغتالت إسرائيل ابراهيم عبد العال لأن مشروعاته شكلت بنظر إسرائيل تجروءاً
على القفز فوق مشاريع ما يسمى بالإستغلال
المشترك للمياه، والتي كان الدور الأميركي بارزاً وحاضراً في وقائعها القديمة ولا
زال هذا الدور يطل في كل مرة يتحرك فيها لبنان خطوة نحو الاستثمار على ثروته
المائية.
وهنا
لا بد من التسجيل ان الولايات المتحدة ومنذ العام 1950 بالنسبة للمنطقة ومنذ العام
1953 بالنسبة للبنان لم تكن وسيطاً نزيهاً في موضوع المياه، وحملت كل مشاريعها من
مشروع السير مردوخ ماكدو نالد إلى مشروع شركة (شاس ماين) او ما يُعرف بمشروع
جونستون، إلى مشروع كوثون إلى حركة المبعوثين خلال محاولتنـا تحرير بعض حقوقنا في
مياه الوزاني إلى ما تسلمناه من أوراق مؤخراً ـ حملت كلها وهدفت في معظمها إلى
خدمة إسرائيل وتحقيق مصالحها، من خلال القفز فوق الحدود السياسية للبنان وسوريا
والأردن وتقاسم ثرواتنا وفي مقدمتها الثروة المائية.
انني
إزاء الدور الأميركي الذي يستمر بالكيل بمكيالين لمصلحة إسرائيل أتجرأ على القول،
انه اذا كانت مصلحة الولايات المتحدة في الحرب الأخيرة على العراق تكمن
في بعض جوانبها وفي أهم جوانبها
في البعد النفطي، فإن مصلحة إسرائيل الدفع باتجاه تلك الحرب وتحقيقها كان البعد
المائي، عبر جعل حدود اسرائيل تمتد إلى الفرات أمراً ممكناً اقتصادياً
إذا كان ذلك أمراً مستحيلاً على المستوى السياسي.
لقد
سبق لي وحذرت منذ سنوات من ان إسرائيل وبعد ان عجزت بسبب ممانعة
لبنان وشعوبنا
وفي الطليعة سوريا، وبسبب مقاومتنا ومقاومة الشعب الفلسطيني وانتفاضته عن تحقيق
إسرائيل الكبرى عسكرياً، فإنها من خلال مشروع الشرق أوسطية او الشرق الأوسط الجديد
الذي تحمله الجيوش الأميركية العابرة للقارات مع من معها من تحالف الراغبين
من عرب وغير عرب
ستحاول تحقيق إسرائيل الكبرى اقتصادياً.
وفي
كل الحالات وحتى لا نبقى نعيش ماضي السياسات المؤلمة محلياً وإقليمياً ودولياً،
ولكي نتجه بخطوات ثابتة نحو المستقبل، لا بد ان نتبع بوصلة ابراهيم عبد العال في
بناء استراتيجية مائية وطنية، اعتماداً على خططه العلمية، واعتماداً على
التكنولوجيا الحديثة والميسرة والتي تتيح لنا ليس سبر أغوار الثروات الكامنة فحسب
وإنما بناء وصنع الخطط العصرية الملائمة لتنفيذ المشروعات، والتي لم يكن الزمن قد
توصل إليها عندما أخذ ابراهيم عبد العال بيد عطشنا لرسم رؤيته.
وعلى
الجانب الآخر أقول :
ان
على إسرائيل ان تقفز من عربة الماء اللبنانية دون محاولة للتفكير بالرجعة، وأؤكد
أننا سنعمل من أجل تنفيذ مشروع الليطاني كاملاً كما أراده عبد العال.
وفي
هذا الاتجاه فإن المعلومات المتعلقة بمسار تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع الذي
موّلت دولة الكويت الشقيقة الدراسات المتعلقة بها والتي رصدت الاعتمادات لتحقيقها
تنبئ بالخير العميم.
وبالنسبة إلى بقية المشروعات المائية المتعلقة بالوزاني والحاصباني وكل ما يتعلق
بالجنوب، فإن لبنان معني بالاستفادة من كامل حقوقه التي يعترف بها القانون الدولي،
ولن نقبل بأن يأخذ أحد بيدنا نحو المشروعات التي تنشئ سداً على نهر الحاصباني في
الأراضي اللبنانية لتخزين المياه لمصلحة إسرائيل، في الوقت الذي يوجد للبنان في حوض
النهر نفسه مساحة تصل إلى خمسة وثلاثين ألف دونم صالحة للزراعة، ولا ينقصها الاّ
إعداد مياه الري لها من نهر الحاصباني. كما أننا سنحرص على استيفاء حقنا كاملاً من
مياه الوزاني.
لا نريد كوباً بالناقص ولا كوباً بالزائد .
أيها
الأعزاء،
إنني
وتقديراً لجهود ابراهيم عبد العال الذي كان جندياً وطنياً يحرس ثروة لبنان المائية
، ومن أجل كل ما سعى إليه تحقيقاً لمصلحة وازدهار لبنان،
أدعو
جمعية الفنانين التشكيليين اللبنانيين ونقابة الفنانين التشكيليين إلى إجراء مباراة
على تصميم رمزٍ تذكاري يعبر عن الشهيد عبد العال ومشاريعه ليشاد على أرض الجنوب جنة
الليطاني، من أجل إبقاء جذوة هذه الشخصية الوطنية مشتعلة في ذاكرة أجيال اللبنانيين
ومنارة للبنان …
عشـــتم
عاش
لبنان