كنا
نحب ان يحدثنا قليلاً، لكنه كان يظل عليه التهيب.
كان
حاضراً معنا أبدا، ولكن صمته وتسمر عينيه كانا يجعلاننا نعتقد انه ذهب بأفكاره إلى
مكان آخر والمكان : ايران.
كنا
نتركه قليلاً لنفسه لعله يفرج قليلاً عن اكتظاظ صدره وما يشتاقه هناك وما يحلم به.
كنا
ننتظر ان يصعد فيه البكاء وزلزلة الوجد، لكنه بعد صمت مرير كان يداهمنا بالأمل،
كأنه كان يرى ما لا يرى سعفاً في النخيل وضوءاً على الماء.
كان
يحدثنا عن قيامة قادمة، فهمس في أنفسنا لعل الإمام الصدر يسر له بما لا يقوله لنا.
كان
يحدثنا عن اقتراب لحظة نهاية خريف الأشياء، عن مواعيد لشتاء قادم يحمل الخير
الكثير.
كان
ذلك الرجل يدهشنا، كان يرسم عالماً مضيئاً في الهواء ونتبع نحن إشارة إصبعه وهي
تتنقل بنا عبر الشرق وتصعد باتجاه الحياة.
كان
ذلك العالم كأنه قادم من فضاء لعالم متقدم آخر، يرى ابعد من عيوننا وكان كذلك، ترك
خلفه علم الفضاء واكتشاف المجرات، وتواضع ليكتشف الإنسان فينا.
كان
كمن يدخل في أحلامنا حين تنام، يكتب مواسم لفصولنا ويرسم أشجاراً لنستظل بها من
صهيل الشمس، كان يزدهر بالقمح، ويرى ان التبغ أسطورة سوف توقظ عاصفة قادمة.
كان
يعرفنا وكنا نسعى لنتعرف عليه، وكلما عرفنا بعضه كنا نريد ان نعرف اكثر.
كان
ذلك الرجل يأخذ بيد من يحب إلى صفوف مهنية برج الشمالي.
كان
يرسم على اللوح صباحاً قادماً من الحقول مزدحماً بالناس الذين يلوحون بالأعلام، كان
يكتب أسماء لمدن لا نعرفها : طهران، أصفهان، مشهد فنعتقد انه يعقد أمامنا درس
الحساب.
كان
لا يريد ان يجرح أحاسيسنا بأنه يعرف اننا إما لا نصدقه وإما انه يلهو بنا وهو يسقط
أمامنا دولاً وشاها وهو يهزم إسرائيل بشحطة قلم.
ازعم
أنني عرفته وصدقته، حتى وحين كان يتهامس والإمام الصدر بالفارسية في موضوع خارج
اختصاصي او مهمتي كان يبادرني او الإمام الصدر قبل ان اهم بالسؤال، ويحدثني عن ان
جمرة الثورة المموهة بالرماد على مساحة ايران قد آن أوان اندلاعها، وقبل ان اعلّق
كان أحدهما يقول لي : لا تكن قليل الإيمان.
تعلمت من
الإمام الصدر كما
تعلمت من ذلك الرجل :
مصطفى شمران أن أثق بإحساس الناس وبوجدان الناس وبحركة الناس.
ومنه
تعلمت بشكل خاص ان الوقت ليس مجرد تكتكة في اناء الساعة وليس مجرد غرام عقارب، بل
انه مساحة للوعد واحتمال للنداء، وعمر من اجل الانتباه وتراب لنقرأ فيه حياتنا.
وتعلمت منه أن الخنوع يجعل الوقت عنكبوتاً من الوهم، ويجعل العمر طريقاً للعذاب
الذبيج.
في
ذلك الوقت، قلت مرة في نفسي انه ليس من قبيل المصادفة ان يمتد الصحابي سليمان
الفارسي فجراً في حياة المسلمين الأوائل، كما انه ليس من قبيل الصدفة أن يمتد مصطفى
شمران الفارسي برقاً مضيئاً في حياة المقاومين الأوائل، الذين نهضوا في الجنوب
والبقاع ومن أحزمة البؤس وأعلنوا قيامة : أفواج المقاومة اللبنانية عندما صرخ دمهم
وانفجر في عين البنيه.
في
لحظة ذلك الانفجار ويوم
كان مصطفى شمران يكرز في قرى الجنوب ويبذر بذار الأمل الطيب في الأرض الطيبة، كان
الكثيرون منكم لم يولدوا بعد، كانت الثورة والمقاومة تهمة تختبئ في مساكب التبغ وفي
نشوة الماء.
إذن
لمصطفى شمران الذي اعترف بحبنا والذي
قرأنا فيه المواسم
لمصطفى شمران القائد الذي أشعل اخضرار المقاومة في أيادينا
ولمصطفى شمران الذي علمنا أن نبقى واقفين وان لا ننحني رغم السنين الثقيلة ورغم
الكوابيس.
وللدكتور مصطفى شمران الذي علم أجيالنا العصر وأدخلنا إلى المناهج التي تجد فرصاً
للعمل.
لمصطفى شمران أول مسؤول تنظيمي مركزي لحركة أمل.
ولمصطفى شمران وزير دفاع الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي
علمنا جميعاً كيف يكون القائد في المقدمة.
للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي رسمته فارساً من فرسانها
ولحركة أمل التي علمها الحرب والحب
ولكم
جميعاً في يوم مصطفى شمران تحية وبعد:
أتوجه
بالشكر الجزيل إلى المستشارية الثقافية ولسفارة الجمهورية الإسلامية
الإيرانية ،
برعاية طيبة ومباركة من فخامة رئيس الجمهورية العماد اميل لحود وفخامة رئيس
الجمهورية الإسلامية الإيرانية سماحة السيد محمد خاتمي على المبادرة لهذه الدعوة
لإحياء ذكرى الشهيد الدكتور مصطفى شمران، الذي وفي لحظة استشهاده لم يفارقه لبنان
وكان إلى جانبه مجاهد من حركة أمل هو الأخ علي عباس
استشهد إلى جانبه في موقعه المتقدم على جبهة الحرب ضد النظام العراقي، الذي
استخدمته قوى الشر في محاولة لإجهاض الثورة الإسلامية في إيران واغتيال الثورة
وأهدافها والجمهورية الإسلامية الوليد في مهدها، وهي نفس قوى الشر التي استخدمت نفس
النظام في اجتياح الكويت من اجل ان تجدد المبررات لتأسيس حضورها العسكري المباشر في
المنطقة، وإقامة قواعد الارتكاز العسكرية لها تمهيداً للحظة المناسبة من اجل إطلاق
حرب السيطرة على مواردنا البشرية والطبيعية، وكان ان قدم النظام العراقي نفسه
المسوغات لتبرير هذه الحرب الجديدة المستمرة.
إذن،
نحن أيها الاخوة أمام الوقائع المتراكمة لذات الحرب التي بدأت على الجبهة ضد
الجمهورية الإسلامية الايرانية، والتي تستكمل صورة حركتها العسكرية والدبلوماسية
والاقتصادية على مساحة الشرق الأوسط الموسع من حدود الصين إلى المغرب العربي، والتي
تشكل فيها الجمهورية الإسلامية والجمهورية العربية السورية طليعة قوى الممانعة
والمقاومة والتصدي، ويشكل كل من العراق وفلسطين ساحتين أساسيتين في اختبار قوى هذا
المشروع الاستعماري الاستيطاني.
الحضور الكريم،
لم يعرف الشرق منذ
أن كانت البشرية ومنذ أن كانت شعوبنا ومجتمعاتنا مشروعاً
استعمارياً أضخم من الذي نواجهه الآن.
لقد سبق وكانت هذه المنطقة هدفاً لغزوات بعضها كان مبعثه تشكل
إمبراطوريات محلية
نبعت من أرضنا واستخدمت الحديد والنار في محاولة لتشكيل حضورها، وبعضها انطلق من
اثينا ثم من روما وهزم في اليرموك، وبعضه من ممالك الشرق الأقصى البعيدة وهزم في
عين جالوت ثم تدفقت بعده الغزوات الصليبية منطلقة من ممالك الفرنجة وانتهت في حطين
إلى النهاية التي يعرفها الجميع، ثم كانت الحربان الكونيتان الأولى والثانية التي
انتهت إلى الاحتلال والانتداب ومشاريع تقسيم النفوذ والتي انتهت إلى الثورات وحروب
الاستقلال الوطني.
أما اليوم فإننا نواجه مشروعاً معلناً مكتوباً بعنوان الشرق
الأوسط الموسع أو الأكبر، والذي اجتمعت على صياغته أطراف متعددة، واتخذ شكل مشروع مشترك في قمة الدول
الصناعية الثماني وفي المصالحة الأوروبية ـ الأميركية وصولاً إلى التوجه لوضع مخطط
عملياتي في قمة حلف الأطلسي الأخيرة.
إن هذا المشروع يموه
الأهداف والنوايا، تارة تحت عنوان الشراكة الاقتصادية، وطوراً
تحت ستار دعم التطور الديموقراطي ومشاركة المرأة وبرامج التعليم وتحسين الفرص وما
إليه.
إلا
أن المشروع في أبعاده يهدف إلى وضع المنطقة تحت السيطرة وإعادة إنتاج نظامها
السياسي، وإخضاعه وملاءمته مع المصالح المشتركة لدول الحلف، ومع المصالح
الإمبراطورية للاتجاه الآحادي الذي تقوده الإدارة الأميركية.
إن هذا المشروع يحاول
أن يضغط الآن على الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالمزاعم
المتعلقة بمحاولة بلوغ ايران لمرتبة التسلح النووي، والضغط على سوريه تحت ستار
أسلحة الدمار الشامل، والضغط على المملكة العربية السعودية لمحاولة تسويق الفوضى
المسلحة، وعلى مصر بالمشكلة الاقتصادية، في محاولة لتطويع وتطبيع مواقف الأطراف
العربية والإسلامية وضمناً ايران وتركيا وسوريا والعراق، عبر استخدام الطموحات
الكردية والاستثمار عليها أميركياً وإسرائيلياً.
إن
الإدارة المشتركة لهذا المشروع الاستعماري ورغم اعراب الدول العربية والإسلامية عن
استعدادها للعمل من اجل شرق أوسط خال من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، إلا
أنها تكيل بمكيالين في هذا الإطار، شأنها في تطبيق جميع المعايير والقرارات
الدولية، عبر جعل إسرائيل استثناءً ودولة فوق الشبهات،
وتتصرف الإدارة المشتركة لهذا المشروع بالوكالة عن إسرائيل لضمان مصالحها الأمنية
وتعهد هذه المصالح، وكذلك رفاهية شعبها على حساب الدول العربية ودول الجوار
الإقليمي.
أيها
الأعزاء،
من موقع المكرم الشهيد القائد مصطفى شمران، من موقع المقاومة ومن موقع مجتمع
المقاومة الذي سعى إليه الإمام القائد السيد موسى الصدر، ومن موقع الدور الذي صاغه
المثلث الماسي الذي تمثل بلبنان وسوريه وإيران، خلال معركة المقاومة المستمرة
بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي والتي حققت إنجازها الأول عام 1984 في مطلع الألفية
الثالثة، نقول ما قاله الإمام الحسين عليه السلام بأننا لن نقر إقرار العبيد ولن
نسلم تسليم الذليل، وأننا لن نقبل بأن تخضع شعوبنا مجدداً للانتداب والاحتلال أو أن
تدار أنظمتنا بالإيحاء.
ونقول
ان تطوير وتحديث أنظمتنا السياسية هي مهمة وطنية ومشتركة بين شعوبنا، واننا لن نصدق
العبارات الفضفاضة والبليغة للخطاب السياسي الصادر عن الغرب، ونرى ان دول الحلف
الجديد ـ القديم والموسع انما تحاول ان تحل أزماتها على حساب الاستثمار على
مواردنا، وان هذه صيغة جديدة للاستعمار المرفوض.
كما اننا على المستوى الوطني وعلى مستوى المشروع الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي
الذي نمثل مع الشـهيد الدكتور مصطفى شمران المسـؤول التنظيمي الأول لحركة أمل وأول
وزير دفاع للجمهورية الإسلامية الإيرانية نقول، اننا سنكون مقاومة من اجل ازدهار
الإنسان لأنه يمثل رأسمالنا الأول باعتباره خليفة الله على الأرض.
ان
هذه المقاومة ستمثل جهادنا الأصغر ضد عدونا الذي يتمثل بالشر المطلق إسرائيل،
وبالشر الأكبر الذي تمثله
إدارة المشروع الاستعماري التي تسعى للاحتكار المركزي
للقوة ووسائل استخدامها، كما ان هذه المقاومة ستمثل جهادنا الأكبر ضد طغيان أنفسنا
وفي سبيل ان تمثل خطنا الإيماني الرسالي.
ان صياغة
أنفسنا في الجهاد الأكبر تشمل إطارنا وحلفاءنا وكل من يقف في خندق الجهاد
على مسافة ساحة مواجهة المشروع الاستعماري، مما يعني بأننا لن نقبل بهدر جهودنا
المشتركة كما لن نقبل بأي نوع من أنواع الهدر، ولن نقبل بتحويل التنافس من اجل
تنمية ساحاتنا ومواردنا وتقوية صمودنا إلى معارك لعرض العضلات والاستثمار السياسي
على شعارات في غير محلها.
اننا من موقع الشهيد شمران نقول، اننا نحن السباقون إلى المقاومة ونحن مدرسة
المقاومة في سلوكها وفي حركتها، وحركة امل ستبقى المنارة التي يهتدي اليها كل ربان
يسلك خط ونهج الرسالة إلى الناس.
ونحن
من هذا الموقع نؤكد على المصير والمسار المشترك مع سوريه تحت قيادة سيادة الرئيس
الدكتور بشار الاسد، والتي قدمت أغلى التضحيات من اجل سلام لبنان ومن اجل صناعة
وبناء استقرار نظامه العام ومن اجل انتصار مقاومته.
كما نؤكد ان انحيازنا للجمهورية
الإسلامية الإيرانية ينطلق من خلفية تاريخية
سس
لها الإمام الصدر والدكتور شمران، وليس طمعاً بإمكانياتها ولا خوفاً من قدراتها،
فحركة امل كانت على الطائرة الأولى التي وصلت إلى موقع الإمام الخميني
أعلى الله
مقامه بعد انتصار ثورته، ونحن متأكدون ان مرشد الثورة الإسلامية آية الله العظمى
السيد علي الخامنئي وقيادات الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعرفون موقع حركة امل في
حياة الدولة والشعب في لبنان، ويعرفون أنها بحر المقاومة وأنها أمواج الحلم الذي لا
يهدأ والذي يحاول تفسير دولة الحق.
ونحن من هذا الموقع موقع
الإمام الصدر والدكتور شمران، نؤكد ان انحيازنا للحقوق
الفلسطينية انحياز مطلق، لا يقف عند كسر جدار او عند خارطة طريق بل بتحقيق الاماني
الوطنية لهذا الشعب الشقيق.
ومن الموقع عينه نؤكد انحيازنا للشعب العراقي الشقيق في انتخاب نظامه السياسي بنفسه
ودون تدخل، وفي حفظ وحدة العراق ارضاً وشعباً ومؤسسات، وفي انتمائه العربي الإسلامي.
أخيراً
من لبنان إلى ايران سلام
عشتـــــــم،
عاشت
الذكرى المجيدة
للدكتور الشهيد مصطفى شمران
عاشت الجمهورية الإسلامية في ايران
عاش لبنـــــان