لأننا تعلمنا في كتابها ان لبنان ليس غابات من الاسماء والطوائف والمذاهب
والمناطق والجهات ، وانه اصغر من ان يقسم واكبر من ان يصفى ، وان لبنان رسالة
الانسان التي هي المحبة والتسامح والعيش المشترك ، وان لبنان بلد لا يمكن الا ان
يقوم بجانحيه المقيم والمغترب ، وان لبنان لا يمكن ان يستمر الا بالمشاركة
الكاملة لكل مواطن في كل ما ينتج حياة المجتمع والدولة ، وان لبنان لا يمكن ان
يكون مزرعة يتقاسم فيه الطغاة المنافع على موائدهم ، وكذلك لا يمكن لأي عدو مهما
كانت قوته وطغيانه ان يستبيح مزارع لبنانية بدءا" بمزارع شبعا او اية ذرة تراب او
قطرة ماء من ترابه ومائه .
لأننا تعلمنا كل ذلك في كتابها كما تعلمنا الحكمة ، نأتي الى مقاعد دراستنا
فخورين بأننا دخلنا باب الحياة من ثقب ابرة هذا الصرح التربوي مدرسة وجامعة
الحكمة .
وبعـد بعـد
فقد شرفني المونسيور جوزف مرهج رئيس جامعة الحكمة برعاية هذا المؤتمر
السنوي للجامعة الذي ينعقد اليوم تحت : عنوان : " أي قانون انتخابي للبنان " ،
وهو امر اثار اهتمامي الشديد لكون الابحاث والدراسات سيطرحها نخبة من اهل الفكر
والعلم ، يمثلون مختلف المواقع والمواقف تمهيدا" للخروج بدراسة علمية تساهم في
اقرار قانون عصري للانتخابات تخدم كما اتوقع من المشاركين مصلحة مستقبل لبنان .
ولكن قبل ان اطرح رؤيتي للموضوع ، اسمحوا لي بداية ان اعبر عن قلق شديد يساورني
نتيجة التوتر السائد في العلاقات الدولية على خلفية المسألة العراقية ، والناتج
عن سببين :
الاول : السلوك الاستحواذي المهيمن والطاغي للولايات المتحدة ، الذي يهدد
بالاطاحة بكل قواعد السلوك الدولي ، والذي يقدم مصالح الولايات المتحدة الاميركية
على الحقائق والمبادىء وعلى القوانين والمعاهدات والاتفاقات الدولية .
الثاني : سعي الولايات المتحدة الاميركية للاستثمار على احتكارها المركزي
للقوة ، واستخدامها حيث تريد وفي أي مكان وزمان .
اننا نرى ان هذا السلوك الاستحواذي المبني على احتكار الولايات المتحدة
المركزي للقوة ، يطرح معضلة دولية على مستوى تطبيق القوانين الدولية والقوانين
المحلية ، حيث ان الادارة الاميركية بدأت سياسة املاءات تريد من خلالها صياغة
انمـاط السلطة فـي كـل بلـد بمـا يتـلاءم مع العصـر الاميـركي ،
بما
يعني صراحة ان الادارة الاميركية جعلت من نفسها انتدابا" دوليا" على مساحة العالم
، وهو الامر الذي يطيح عمليا" بآمال الشعوب في تطوير دساتيرها وانظمتها وقوانينها
بما يخدم ازدهار الانسان في اقطارها .
انني اتساءل هل ان احدا" في العالم يصدق بأن الغاية الاميركية هي نزع اسلحة
الدمار الشامل العراقية ؟
فإذا كان هذا الشعار حقيقيا" فلماذا لم تستجب الادارة الاميركية لدعوات
القادة العرب منذ ربع قرن الى اليوم بجعل منطقة حوض البحر الابيض المتوسط ومنطقة
الشرق الاوسط برمتها منطقتين خاليتين من اسلحة الدمار الشامل ؟
الجواب بإختصار لأن الادارة الاميركية لا تريد المساس بمخزون السلاح النووي
والجرثومي والكيماوي الاسرائيلي مع الاشارة الى انها حولت الانظار عن الجرائم
الاسرائيلية اليومية ضد الشعب الفلسطيني واعطت وتعطي اسرائيل الوقت اللازم لسحق
كل الحقوق المعترف بها دوليا" للشعب الفلسطيني وفي الطليعة حقه في الحياة وفي
العودة الى ارضه وتقرير مصيره .
السيدات والسادة
،
ان أي انسان يمتلك حسا" سياسيا" كان لا يمكنه ان يدخل مباشرة صلب العنوان
المطروح على مؤتمركم دون ان يتطلع امامه ومن حول وخلفه ، خصوصا" وان الاخطار
المحدقة بالمنطقة وبلبنـان تستـدعي الانتباه الكامل ازاءها او كأنعكاس او
استتبـاع لها حتى لا نقع في المحظور وننكشف اننا بالكاد نستطيع ان نواجه امطارا"
غزيرة متفرقة في انحاء الوطن .
بالعودة الى العنوان المطروح على بساط البحث في هذا المؤتمر ، فإنني بداية
اشدد على جملة عناوين ضرورية لا بد منها من اجل التحقق من امكانية مشاركة كل
مواطن في ما يصنع حياة المجتمع والدولة هي :
اولا" : تعزيز حقوق الانسان وتعليم الناس عن حقوق الانسان .
ثانيا" : تعزيز الديموقراطية عبر اعتبارها نهج حياة لا مجرد حدث انتخابي عن
طريق التربية على الديموقراطية وتعليم الديموقراطية .
انني اعتبر هاتين الخطوتين ضروريتين من اجل ضمان موقع لبنان في المستقبل .
وقد يرى البعض في كلامي اتهاما" او انتقادا" للنظام السياسي او النظام
التربوي ، الا انني اقول ان المطلوب ليس ابراز موقع لبنان وكأنه واحة في محيطه ،
وابراز ان نمط السلطة في لبنان على انه متقدم قياسا" الى انماط السلطة في الشرق
الاوسط انما المطلوب ان نقتنع نحن ، وان تتشكل لدينا القناعة بأن لبنان هو فعلا"
واحة الحرية ، وبأن لبنان هو فعلا" مثال ديموقراطي واننا بتنا لا نعاني من امراض
الطائفية المزمنة وغيرها من الهواجس والمخاوف والحرمان خصوصا" السياسي .
عدا ذلك وذلك ليس بالقليل بل انه جوهر المسألة . فإن لبنان يستدعينا حيث لم
يتجرأ الاخرون الى انتاج عدد من القوانين العصرية التي تضع لبنان على قائمة
المستقبل وتلغي نهائيا" انتماء نظامه السياسي للماضي المتخلف ، ذلك النظام الذي
اسس على قاعدة الترضية والتسويات بغياب العدالة والمشاركة الحقيقيتين للحرمان
والغبن واللامساواة ، والى مواطنيه بدرجات متفـاوته ،
والى صيف وشتاء على سقف واحد ، وهو الامر الذي جعل من اللبنانيين بغض النظر عن
طوائفهم وانتماءاتهم وجهاتهم يقبلون بأن يكونوا حطب الحرب – الفتنة ، وان يكونوا
اكياس رمل ومتاريس للذين جعلوا من الوطن والمواطن غنائم على موائدهم ، والذين
قادوا مرحلة نصف قرن من عمر الوطن الى الدمار والخراب .
ان لبنان الجديد الذي نريده جميعا" يستدعينا حيث لم يتجرأ الاخرون كما قلت
، الى انتاج حزمة من القوانين العصرية ، واقول حزمة من القوانين لا قوانين منفصلة
عن بعضها البعض ، لأنه لا يمكن فصل قانون الانتخابات البلدية والاختيارية عن
قانون اللامركزية ، ولا فصل القانونين عن قانون الانتخابات النيابية ، ولا يمكن
انتاج انتخابات وفق مفاهيم العصر دون قانون جديد للاحزاب .
واقول ذلك لأن تاريخ لبنان يزخر يعدد من القوانين الانتخابية التي جربت
والتي تم من خلالها مراعاة ذقون الجميع ، بل انه جرى في اطار تلك القوانين تفصيل
الدوائر الانتخابية حسب متطلبات الامر الواقع السياسي والطائفي والمذهبي والفئـوي
.
هل بإستطاعتنا ان نقول كفى ؟
هل
ترانا قادرين على فرك اعيننا من اجل ان تكون رؤيتنا للمستقبل افضل ؟ هل ترانا
قادرين على التفكير من موقع المسؤولية كجماعة وليس كأفراد او كفئات او كمذاهب
وطوائف وجهات متنازعة ؟
اقول اننا في سباق مع الوقت ، واننا نستطيع ان نكسب الرهان ، ودليلي على ذلك ان
اللبنانيين المغتربين المنتشرين في اصقاع الدنيا وعددهم اكثر من ثلاثة اضعاف
اللبنانيين المقيمين ، وحيث للديموقراطية طعم الحقيقة في الممارسة ، استطاعوا ان
يتلاءموا وان يتكيفوا وان يبرهنوا انهم ابناء يومهم وابناء عصرهم حيث ان هناك
وعلى الدوام ما يزيد عن مئة وخمسين منهم اعضاء في مجالس نواب ومجالس شيوخ تسعة
عشر بلدا" في العالم ، منها الولايات المتحدة وكندا واستراليا والبـرازيل
والارجنتين وتشيلي وغيرها ، وبعض هؤلاء وصلوا لتولي مناصب عليا من رئاسة
الجمهوريات ورئاسة المجالس النيابية ومجالس الشيوخ ، واي متتبع او باحث او دارس
سيكتشف ان هؤلاء لا يعتمدون على عصبيتهم اللبنانية ولا قوة الجاليات ، بل ان
ناخبيهم من اثنيات مختلفة ، وان هولاء يمارسون الحياة الحـزبية او السياسية
ويعرفون كيف يديرون اتفاقاتهم واختلافاتهـم .
طبعـا" انا مقتنع بأن يراعي الدستور حرمة الطوائف وحقوقها ، وفي مداخلتي في
القاهرة في ندوة بعنوان الديموقراطية والشورى ، تحدثت عن الديموقراطية في مجتمع
متعدد وتحدثت عن التوافق في لبنان ، شرط ان لا نتمادى في التسويات على حساب
الدولة ، وشرط ان لا يكون التوافق ميراثا" استعماريا" ، واكدت واؤكد ان التوافق
يحتاج الى صناعة وبناء ينطلق من مسألة
مركزية هي ضرورة الدولة والحاجة الى الدولة بشرط الديموقراطية كهدف اساس بحيث
يؤدي التوافق الى ديموقراطية مستقرة .
انطلاقا" مما تقدم وقبل ان اترك مؤتمركم الى اشغاله التي آمل والتي اؤكد
انها ستغني الابحاث الخاصة بصناعة قانون الانتخابات في لبنان اسمحوا لي ان اجمـل
مواقفي على النحو التالي :
من المعروف انا كحركة سياسية اساسا" نطالب بجعل لبنان دائرة واحدة على اساس
النسبية .
الا انني ادلي ولأول مرة برأي شخصي :
اولا" :قانون انتخابي يرتكز على جعل لبنان انتخابيا" امام نوعين من الدوائر .
مثلا":
الاولى : المحافظة على اساس النسبية لانتخاب 66 نائبا" .
الثانية : وطنية لانتخاب 62 نائبا" .
ولوائح وطنية تضم زعماء سياسيين وممثلي احزاب من مختلف مناطق لبنان تتمثل فيها
الطوائف بنفس النسب التي تم التوافق عليها في قانون الانتخاب الحالي .
ويحق لأي مرشح ان يترشح عن دائرته الفردية في المحافظة وان يكون اسمه على لائحة
الوطن ايضا" فإذا نجح في الاولى شطب عن اللائحة الوطنية ويحل محله من ينال اكثر
الاصوات من طائفته على لائحة الوطن . وبالمناسبة هناك بلدان عديدة يوجد فيها
قوانين انتخاب تتبنى نوعين او ثلاثة من انواع الدوائر في نفس الوقت .
ثانيا" : صنع واقرار قانون اللامركزية الادارية .
ثالثا" : صنع واقرار قانون للاحزاب تتشكل على اساسه احـزاب سياسية .
ان
الجامع المشترك للقوانين هو الديموقراطية وجعلها نهج حياة لا مجرد حدث انتخابي ،
وتمكين المواطنين من المشاركة في كل ما يصنع حياة الدولة والمجتمع السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والادارية والنقابية .
هل ترون اننا قادرون ان نبني وطننا على هذه الاسس ؟
هل ترانا نستحق وطننا لبنان على هذه الصورة الجميلة كبلد محكوم بنظام
برلماني ديموقراطي متكامل ؟
هذا ما يطرحه علينا لبنان
عشتم 00
عاش
لبنان
عاشت
الحكمة