نص خطاب الرئيس نبيه بري الذي ألقاه في الذكرى العاشرة لرحيل الشيخ محمد جواد شري رائد العمل الإسلامي في أميركا والذي كان شاهداً على عصره في عمق الغرب وكتاباً نفسياً في معرفة الإسلام الحقيقي ( 18-11-2004)


 

أيها الإمام الراحل،

 

هذا العام وفي كل عام في ذكرى رحيلك اشعر انك خذلتني، ولكنك تجابهني بأن الموت يأتي دون أن يطرق الباب ودون أن يستأذن في الدخول، يأتي دون سابق إنذار ودون مقدمات، يأخذ ما أعطى الله وينصرف دون أن يلتفت إلى الخلف غير آبه بالمشاعر أو بمنازل الحزن والحنين والأشجان.

 

اشعر انك خذلتني، لأنك حيث كنت كنت تسد غيابنا جميعا" عن أهلنا، آبائنا وأمهاتنا وبناتنا وأبنائنا الذين انتشروا إلى العالم البعيد، فكنت تغمرهم بمحبتك وتغسل عنهم النهارات الوبيلة، وكنت تصل ما تباعد بينهم من أسماء وأفعال، وتعيدهم لكي يحوموا في سماء الله، وكانت ابتسامتك البتول تعيد شكواهم إليهم، وكنت منتبها" في غربتهم أن لا يبعثرهم الهواء، وكنا نسأل الله لك عونا" خارقا" حتى لا تجبر الغربة حيث أنت أبناءك على الانحناء أو التشظي والنسيان، ثم أن تحصدهم الغربة مثل حطب يابس .

 

اشعر انك خذلتني ثم استنكر هذا القول، فقد زاحمت العمر أو زاحمك العمر وأنت تحمل تعب وعذابات أوطاننا إلى وطن الآخرين، فأقمت على سعة صدر منك وأنت على خلاف الآخرين المجتهدين في الدين أو المجتهدين في الدنيا كنت: مجتهـدا" في الـدين والـدنيـا .

 

كنت تريد تحقيق اتصال الناس بالسماء على نحو سهل وبريء وناضج وواضح، على انك كنت تريد للناس التي تقف على الأرض، وان تتلفت حولها وان ترى كل ما يحيط بها، وان تتحقق وان تزيد معارفها بطرق الأرض كما في طرقات السماء .

 

كنت ذلك الرجل الذي جاء يسعى في البلاد البعيدة خلف البحار، وقد أدركت أن التقدمية لا تعني التفلت بل تعني تقدم العقل وعصرنة العقل، وان العروبة ليست مجرد قامات نخل تصدح في صحراء عارية، بل هي تاريخ وفكر وعقيدة ومحجة بيضاء ولغة وعمل، وان الإسلام هو سلام الإنسان مع خالقه ومع نفسه ومع جاره، على أن لا يكون جاره مغتصبا" للأرض وعنصريا" وعدوانيا" ومحتلا"، بل أن يكون جاره رساليا" مؤمنا" موحدا" مستقيما" .

 

وكنا نعرف انك لن تتعب وانك ستقاوم في الغربة التغريب والغربنة، لأنك قبل أن تبادر الإقامة إلى الفراق كنت المشهور بالعطف والتواضع، الوافر المعرفة والعلم، الخطيب اللامع والواعظ والمرشد الجريء في أسلوبه، ثم ها نحن نستعيد بعض ملامحك اليوم في الذكرى السنوية لرحيلك، ونعترف انك أستاذ في مدرسة الإمام الصدر، تميزت بمالك من منهج خاص في الكلام، تبتعد فيه عن الحشو والتنميق، وتعتمد الاختصار وتكثيف المعنى، وقد اعتمدت هذا الأسلوب لأن البلاد التي قصدتها بلاد تستهلك الإنسان وتأكل كل ثانية من وقته وتوزعه على محاور الإنتاج والعمل .

 

في الذكرى السنوية لرحيلك، اقف ككل عام بإجلال أمام عطاءاتك، متوجها" إلى الأهل الأعزاء المتحدرين من اصل لبناني وعربي، وإلى المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية وخصوصا" في ديترويت بخالص المحبة والتقدير لهم، وللراحل الكبير الذي ألف بين قلوبهم وأسس بيتا" لله يتسع لبيوتهم ليذود عنهم في غربتهم، وأقول لهم في هذه المناسبة :

 

إن الأزمات تشتد في الشرق، والموت المجاني يحصد الحياة من شوارعنا والإحساس بالمتغيرات قليل، والعجز يزداد، وان الصورة المشهد من العراق إلى فلسطين إلى السودان تبدو سوداء، وهي ليست بيضاء في بقية العناوين العربية والإسلامية .

 

على أننا عندما نستذكر تجربة سماحة الإمام الشيخ محمد جواد شري واقتحامه لعالم بعيد، عالم صناعي يضم قوى إنتاج هائلة وعالما" مسلحا" على هذا النحو، وهو يحمل ما يخفي بعض أسرار الشرق في عقله تحت عمامته، نعرف أننا يمكن أن نكون مندهشين وأقوياء بايماننا، وأيضا" بمعلوماتنا وباكتسابنا لمعارف عصر المعلومات والاتصالات كما كان قويا" فلا ننهزم إذ تطرق أبوابنا شعارات صدام الحضارات ولا نسقط في حرب التشويه المعتمد لأطروحة الحدود الدامية للإسلام، ولا ننجذب إلى الصراع القبلي على المستوى العالمي، بل ننتبه انه ومصابيح الهدى وعلماءنا قد انتبهوا وأشاروا لنا أن ندير حوار حضارات، وان الحضارات يمكن أن تكون حميمة ولا تتصادم .

في رسالتي لكم في العام السابق في هذه المناسبة العزيزة، أشرت إليكم إلى أن سماحته انتبه إلى أن ما يجري في بلادنا من " نفي للعقل " أو من هجرة للأدمغة وقوة العمل، وإلى أن بلادنا تحولت إلى مصدر للموارد البشرية .

 

اليوم بعد حروب الافقار، وبعد أن بدأ نشر ثقافة القوة وأعلنت حرب السيطرة، يريد الآخرون ببساطة السيطرة على مواردنا البشرية والطبيعية، وان نكون حيث نقيم وليس حيث نغترب فحسب عبيدا" لإمبراطوريات .

 

ربما يكون فقيدنا الكبير واحدا" من الأوائل الذين انتبهوا إلى أن المعيارين التاليين :

الأول : القلة المسيطرة والمهيمنة على مقدرات العالم .  

الثاني : الأغلبية التي تمثـل الآخر ولا تسيطـر إلا على القليل بل القليل جدا"  .

 

انتبه إلى أننا جزء من هذه الأغلبية التي تكاد تفقد حواسها الخمس، وأراد لنا أن نقف على قاعدة الفعل وان نخرج من عقدة الطلاسم ومن الخوف من أن يكون كل شيء مرصودا" .

 

لذلك جاء إليكم وعاش بينكم، عرشه قلوبكم، وأراد لكم أن تكونوا قوة مشاركة حيث انتم وقوة مشاركة لأوطانكم .

 

لم يتقوقع في جلباب رجل الدين وينصرف فقط إلى العبارات، بل أوجد هذه المؤسسة التي هي مسجد حقيقي يصرخ في برية ضمائركم من اجل أن تتحولوا من مهجرين محرومين من وطنهم إلى مهاجرين من اجل وطنهم ومن اجل رسالتهم .

 

كان مناشدا" بصوت التاريخ .

كان كتابا" نفيسا" في معرفة الإسلام .

كان شاهدا" على عصر أقام فيه مقاوما" في عمق الغرب على خط الدفاع الأول عن الشرق .

 

لم تمر حادثة أو حدث بلبنان والوطن العربي والمنطقة الإسلامية إلا وتصدى لها بلسانه وقلمه ومنبره ومشافهاته .

 

ويكفي انه وضع عنوانا" بمواجهة ثقافة القوة هو : ثقافة التسامح .

يبقى أننا، انتم في غربتكم ونحن في إقامتنا سنعود غرباء إذا لم نحثكم كل يوم إلى أدبيات الطليعيين من علمائنا، وجبل عامل منبعهم، وفي طليعتهم من عايشناهم وتركوا علامات مضيئة في هذه الحلكة وفي مقدمهم سماحة الإمام القائد المغيب السيـد موسى الصدر وسماحة الإمام العلامة المرحـوم الشيخ محمد جواد شري .

 

                                                 مع أسمى تحياتي

                                                 رئيس مجلس النواب اللبناني

                                                        نبيه بـّري