كلمة دولة الرئيس نبيه بّري رئيس مجلس النواب في تكريم سيادة المطران يوحنا حداد صور – القلعة – 4/2/2005


 

لصور التي غلتها حصاد البحر والنهر والبر

للمدينة المبتهجة التي ترقى إلى الأيام الأولى، والتي حملت أشرعتها الحياة إلى ما وراء البحار.

لصور التي لم يستطع أحد أن يذل كبرياءها من الجيوش المقتدرة عبر التاريخ إلى الإسرائيليين.

لصور التي لم يزعزها البحر، وبقيت تفتخر على الممالك بأنها خاتم الكمال.

لصور، مدينة الأعجوبة الأولى ومدينة الكاتدرائية الأولى، ومدينة الإمام شرف الدين، والأرض الطيبة التي بذر فيها الإمام الصدر بذرة أمل الطيبة.

 لهذه المدينة التي سكن إليها النبع الطاهر، الكلي الوقار مطران المحبة يوحنا الحداد، ألف تحية لها وله في هذا اللقاء، وبعد وبعد،

 

لعلني في هذه اللحظة من اسعد الناس، وكذلك من أشدهم حزنا" لأنني إذ اقف بكل  فخر لأكرم أخا" عزيزا" حمل صليب الجنوب على درب جلجلتنا التي لا تنتهي، فذلك شرف لي وسعادة، اما لأن أكرمه لأنه تعب من حمل صليبه وتريد له الكنيسة أن يرتاح، فإن ذلك أمر يكدرني ويجعلني حزينا"، ذلك لأن الراعي لا يمكن له أن ينتهي من بلاغ رسالته إلا بسيادة المحبة، ونحن لازلنا نقف على حدود الخوف والقلق والاضطراب، ولازال التهديد لوجودنا قائما" ولازال تجار الهيكل وأصحاب الأسفار يسلطون على صور وما حولها الجيوش، ولازال جبل الزيتون يتوجع من وقع أقدام الغزاة، ولازالت قانا تعيش حزن عرسها الأخير.

 

ترى هل كتب على الجنوب وعلى لبنان أن يغيب أمامه وهو لازال يبني بروح الأمل على حدود اليأس.

تـرى هل لا يبلغ سن التقاعد الا الجنوبيون أو الذين يحبون الجنوب، فيحال الكاردينال خريش على الانتظار حتى الموت، ويستعجلون علينا بأخذ بركة المطران حداد ؟

طبعا" أنا لا أتدخل في شؤون الكنيسة وخصوصا" أن سيادته لديه مهام كبرى، فهو رئيس المحاكم الكنسية وهي أعلى سلطة في الكنيسة الكاثوليكية، ولكنه بالنسبة لنا جاء عندما اشتد الوجع في الجنوب وتوفى الله شقيقه المثلث الرحمات المطران جورج حداد ولم يكتف بأن يكون مجرد واعظ، ولم يكتف بأخذ اعترافنا عن الحرمان المزمن والعدوان المتواصل، فأقام المؤسسات التربوية والصحية والاجتماعية والتعاونيات على مساحة الجنوب حتى على خط الحدود في يارون، وتعاون مع المؤسسات والهيئات الإنسانية المحلية والدولية ليخفف من معاناة الناس خصوصا" الصيادين والفلاحين حراس البحر والبر.

ومن منبر إلى منبر على مساحة مدن وبلدات وقرى ودساكر الجنوب، كان يعلم المحبة والصبر، وكان يعلق كلماته على شجرة الظلمات فنهتدى بتلك الورود ونصير كالنضار على الفراشة.

 

أتذكر الجنوب قبل أن يأتي الإمام وأشقاؤه من المطارنة.

كان الصيادون يستجدون لقمتهم الحلال من صراخ الماء في الأمواج.

وكان الفلاحون يسقون البساتين وزرع الحقول دمع حنانهم المالح، ويقرؤون تفسير أحلامهم في تراب الليل.

كان الجنوب متروكا" حقل رماية لأسلحة العدو، وكانت البراءة تموت بدون عزاء.

ومن مساجد صور وكنائسها كانت البشارة وكانت الصرخة في برية العالم، وعادت صور لتكون شرفة الفرح.

في هذه المدينة كان عالم الإيمان والعبادة مختلفا".

كان المسجد والكنيسة يرفعان الصلوات لاله واحد.

وكانت عيون رجال الله نظيفة وهي تنظر إلى كتبه وتقرأ باسم ربها.

 

إلى هذا البيت الصوري الذي لا يفرق بين مسجد وكنيسة، جاء المطران حداد وقرر أن يعطي دون حساب وان ينذر حياته.

جاء من بيت شباب إلى بيت الشباب، في بيت شباب التقى بالإمام الصدر وتقاسما الخبز والملح وافتتحا بابا" للحوار، وخططا معا" لمسيرة تبدأ من الجنوب نحو كل الوطن مرحلة جديدة قديمة تمتد وتعود إلى آلاف السنين حيث لقاء الروح مع الروح والإخلاص مع الوفاء.

يخبرنا المطران يوحنا أن أخاه المثلث الرحمة المطران جورج كان من أوائل الذين رسموا مع الإمام الصدر برنامج تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وبعد ذلك تشكيل هيئة نصرة الجنوب، وعلى نفس الدرس سرنا يدي بيد المطران.

 

سويا" منعنا انتقال الفتنة إلى الجنوب، وكنا نكثر من بذار المحبة حين يداهمنا الشر.

سويا" أعدنا المهجرين إلى شرق صيدا ودردغيا، سويا" أردنا تبنين وبرعشيت وصفد ويارون وعين ابل ودبل ورميش والقوزح وعلما الشعب محطات مضيئة في تاريخ الجنوب وأمثلة حية على حسن الجوار والاندماج الوطني.

وسويا" على خطى الإمام الصدر والمطران جورج وقفنا بوجه العدوان والطغيان والإقطاع والفساد.

 

سيادة المطران،

ببركتكـم وكما واجهنا الاحتلال والاجتياحات وعناقيد الغضب وقمنا، وكما واجهنا الموت الذي عصف بقانا وقمنا.

وكما وقفنا سويا" في هذا الجنوب المقاوم الأبي الذي انتفض على الإهمال المزمن واخترق إرادة النسيان وانتصرنا.

وكما بفضل محبتكم وإيمانكم نبتت الشهادة من رحم الجنوب، وكما تعلمنا من رسالتكم انه من فرح الشهادة المبلل بطعم الألم تكبر الآمال.

وكما تربينا في صومعتنا وأديرتكم أننا نحن الأقارب والانسباء في الشهادة وعبادة الله الواحد، نتنادى اليوم على وقع صوتكم لنقول بصوت عال، إننا بمواجهة محاولة تقديم لبنان ومحاولة إعادته ليكون طاولة لتقاسم المغانم سنسير نحو الأهداف التي رسمتها هيئة نصرة الجنوب في صور، وكانت سر اعتراف الناس إليكم، سنسير على طريق جلجلتنا بعناد المؤمن، وشعارنا ألا نهدأ أو نستكين طالما على أرضنا محتل وفي عيون أطفالنا قلق المستقبل، ولا يخيفنا إن تحولت أيام السنة ذكريات حزينة، ولن تثنينا قوة عن التعلق بالناس والأرض.

 

إننا يا سيادة المطران نتذكر كلماتكم في احتفال تجديد كنيسة قانا التي جاء فيها : إن ما نراه أو نسمعه اليوم على الساحة اللبنانية الداخلية على المستويين الإداري والسياسي يجعلنا نتألم خجلا" من العالم والتاريخ وأنفسنا، إن الأداء السياسي والإداري على مساحة الوطن لم يكن على مستـوى التحديات بل لم يكن من طبنه مفهوم الشهادة والوطنية التي نفخر.

ونردد معكم كلامكم وكلام الإمام الصدر بنفس المناسبة، إن ما تريده من هذا العهد هو فتح ملف لبنان الذي نريده لا لبنان الذي كان موائد لتقاسم المغانم، لبنان الذي تريده هو الواحد الموحد الحر المستقل الذي يحلق بجناحيه المقيم والمغترب، لبنان النوافذ الحضارية المفتوحة على العالم، لبنان المشهد التاريخي لارث أجيال منذ خمسة آلاف سنة، لبنان الذي حمل الحرف على أشرعة الصيادين إلى العالم، لبنان الرسالة كما وصفه قداسة الحبر الأعظم.

 

إننا معكم نوجه عناية الجميع في لبنان إلى أن الانتكاسة في الجسم الضعيف قد تعيده إلى مرضه وتنهكه.

إننا نقول أن الجنوب كان ينتظر من القيمين على البلاد بمناسبة قانون الانتخابات جراحة تشفيه من الأمراض وليس اثخانه بالجراح، علما" أن الجنوب في الانتخابات قادر أن يقول كلمته مهما كانت التقسيمات لصالح المقاومة والتنمية، وهو لن يخرج على سيرته وعلى عهده وكنا نأمل ولا نزال ان تنتقل عدوى المحبة والتسامح لتسود على مساحة الوطن وان تنتصر على المصالح الفئوية والأنانية.

 

أخيرا" أيها الأخ العزيز سيادة المطران يوحنا حداد، نعاهدك ونحن رعيتك ان نبقى على كل تفانينا، وان يبقى قلبنا يخفق بالمحبة وان نستمر بمطالبتنا، لا نهدأ كموج البحر حتى لا يبقى منطقة محرومة في لبنان، وحتى لا يبقـى محروم واحد في لبنان، وسيبقى عرشك في قلوبنا، وستبقى منازلنا ومساجدنا وكنائسنا على مساحة الجنوب محرابا" لعبادتكم، وسنبقى نغرف من نبع محبتكم، وذات يوم قريب ستكون على رأس القداس الذي يحي أعراس قانا عندما ينبلج الصباح الموعود على لبنان.

 

                                                عشتم يا سيادة المطران

                                                عاشت صور

                                                عاش لبنــان