كلمة الرئيس نبيه بري بتاريخ 11/11/2003 في الذكرى التاسعة لغياب العلامة الشيخ محمد جواد شري


 

من تراه منا ، يقف على نوافذ الصقيع ، مطلقا" العنان لاشواقه عبر المسافات ، لعلها تصل ولا تنكسر على عتبة النسيان ؟

 

من تراه منا ، الغريب عن وطنه ، والغريب في وطنه ، ام ان كلينا كذلك لأن فكرنا اعلن الحرية ؟

 

من تراه منا ، الذي ضحكت عليه شمس الغربة ، الذي مشى على الماء ، مبتعدا" خلف البحار والمحيطات ، ام الذي تقيم عيناه على مساكب الحزن المتجدد ؟

 

من تراه منا ، الذي تبرعمت في قلبه حروف الانسان ، ام ان كلينا كذلك لأننا جئنا من مقالع التين والزيتون ، ومن الحواكير التي يجري في اتلامها نهر الشعب .

 

من تراه منا اغلق خلفه نوافذ الصمت والظل ، وفتح الباب على مصراعيه للشمس الصبية ، من اجل ان تسلك طريق النهارات ، والى قفران النحل في عيون الناس ، والى مناشر التبغ وزنابق الحقل وضحكات العصافير ، والى الصوارى المذهبة في موانئ الصيادين ، ام ان كلينا هو الآخر ، يبشر بالعطاء وبالامل .

 

من تراه منا يحاول ان يستريح ، انت بموتك المعلن ، ام الذي يحـاول ان يغل القمح في خزائن المونة ، من اجل ان تصبح الحياة ممكنة ، والسعادة مستديرة كرغيف الخبز ؟

 

ومن تراه بعد كل هذا السفر ، هو الذي كتب ان الحقل لا يمكن ان يكون اكبر من حلم الفلاح ، ولا البحر اكبر من حلم الصياد ، ولا العمر اكبر من احلام الطفولة ، ولا المداد والورق اكبر من الفكرة ، ام ان كلينا لازال يكتب حكمته ، ولا يكل ولا يمل .

 

وبعد وبعد ، ايها الاخ الجليل ها نحن لازلنا نفتح عليك باب العمر المديد ، رغم رحيلك ، لأنك حيث حملت نفسك الى البعيد ، لم تكن تسعى لتنسحب من الاقامة الى الفراق ، ولا لتكسب جاه ، او لتجني ثروة ، او لتأخذ فرصة لذاتك ، ولم تكن كذلك تسعى الى تعقد يديك على وعد بلد بعيد بلا حرمان ، ومدن بعيدة مضاءة بلا عطش ، ومواسم كثيرة لغلال غير الضجر ، فأنت انت جئت تسعى حتى لا يتحول الابناء الذين اغتربوا الى ضاحية فقيرة لاوطان الاخرين ، وحتى لا يصبحوا منبوذين دون لغة وبلا كتاب ، وحتى يبقى الله في قلوبهم .

 

وها نحن على الموعد ، كما في كل عام ، نحمل اليك شهادتنا على انك كنت تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وعلى انك وقفت في البر البعيد للعالم الجديد ، وفي منتصف الطريق ، وجها" لوجه مع تراب ارضك المغترب ، الذي يمشي حتى لا يتعرض لضياع المعتقد وذوبان التقاليد .

 

ها نحن لا نتأخر على موعد حضورك في غيابك ، لنحمل الى ذكراك العطرة يا سماحة العلامة المرحوم الشيخ محمد جواد شري ، عبير الوطن الذي يشتد فيه زهر الليمون واريج الورود .

 

فإليك سلام الذين لم يعودوا غرباء في وطنهم ، وسلام الذين لن يبقوا غرباء عن وطنهم ، وبعد  وبعد :

 

فإن سماحة العلامة المرحوم الشيخ محمد جواد شري ، لا بد وفي هذا الوقت ، ان يستدعي على منبره ، وفي مسجد جهاده ، قول كلمة حق امام سلطان جائر .

لذلك نقول بلسانك وبأعلى صوتنا الصارخ في برية الله ، ان الاسلام مقاومة ولا يمكن ان يكون ارهابا" ، الاسلام مقاومة للقهر والظلم والعـدوان والارهاب والجريمة المنظمة والاستيلاء والتعسف والاستفـزاز .

وان الحرية في الاسلام ، هي المناخ الملائم لنمو طاقات الانسان ، وبروز مواهبه .

وان غياب الحرية ، يجعل الفرد يخضع للحجم الذي يقدمه الغاصب للحرية .

ونقول بلسانك ، ان الانسان في حاجاته وفي كفاءاته ، وضمن المجتمع الذي يحتضنه ، يجب ان يكون منسجما" مع مجتمعه ، فكلما نمت حاجة من حاجاته على حساب الاخرى ، اصبحت وبالا" ، وكلما نما الفرد او حاجات الفرد على حساب بقية الافراد ، اصبح وبالا" ، وكلما نمت جماعة او نمت حاجات الجماعة على حساب جماعات وحاجات ، اصبحت مصيبة .

 

ونقـول بلسانك لابنائك ان عليكم رسالة لا بد من ابلاغها حيث انتم ، وهي ان الجيوش الرقمية والاحتكار المركزي للقوة ليسا السبيل لاخضاع العالم ، وانه لا يمكن استبدال المصالح بالحقائق والمبادىء ، وان القوانين الدولية لا تقبل استثناء اواعتبار أي كيان فوق الشبهات ، وان تطبيق القوانين والانظمة الدولية لا تقبل معايير مزدوجة .

 

ونقول بلسانك ، انه لا يمكن تمويه النوايا والكذب على ذقون الشعوب تحت ستار إعادة بعث الامل وتحت ستار التغيير من اجل السيطرة على مواردها البشرية والطبيعية .

 

وبلسانك نقول : انه من المستحيل ان يكون التغيير مهمة امبريالية وانه لا يوجد احتلال اخلاقي أو احتلال انساني أو احتلال حضاري .

 

ان احدا" لا يمكنه ان يصدق ان الاحتلال المصحوب بالحديد والنار هو تعبير عن دبلوماسية انسانية ستؤدي الى تصحيح انتهاك حقوق الانسان .

 

ان احدا" لا يمكنه ان يصدق ان الاحتلال يمكن ان يتحول الى حدث اجتماعي القصد منه ازالة الظلم والقمع ، لأن الاحتلال بكل تعابيره يمثل اعلى درجات الظلم والقمع والتعسف .

 

ان احدا" لا يمكنه ان يصدق ان الاحتلال يسهم في التطوير والتنمية ، لأن الشعوب التي يقع عليها الاحتلال تدفع من ثرواتها ومواردها ودمها ثمن هذا الاحتلال .

 

ان احدا" لا يمكنه ان يصدق ان الاحتلال يحمل بلسم الحرية ، لأن الدول التي تمارس الاحتلال تقف عند حافة حرية التعبير وعند حافة الابعاد الاقتصادية والاجتماعية للعدالة .

 

اننا من لبنانكم ومن الشرق الذي كان مهد الديانات السماوية الذي صدّر الى العالم الحرف والمحبة والتسامح ، ندعو رعية الشيخ العاملي المرحوم محمد جواد شري للقيام بدور من اجل السلام ، وبإعلان موقف من حروب السيطرة ، لأن الانتصار على مشاريع الضربات الاستباقية واستراتيجيات الصدمة والنار يتم حيث انتم ويتم باسماع اصواتكم في واشنطن وعواصم الولايات المتحدة الاميركية .

كما وانكم وازاء التحدي الذي يتمثل بالآحادية وصراع الحضارات مطالبون بالتأكيد ان ما يجري عولمة للفقر ، وان احلام المحافظين بالسيطرة من خلال استخدام حضارة العالم الآلي لسحق المجتمعات والافراد في العالم لن تتفسر سوى كوابيس ، لأنها ستؤدي الى ازدياد مناطق الفقر والجريمة والمرض عبر العالم وداخل مجتمعاتها وهذه الحضارة التي انتجت عصر السرعة بطيئة في اكتشاف عيوبها وهي ابطأ في معالجتها .

 

انكم تستطيعون ان تعبروا بشكل مفهوم ومقبول ومقنع ان حضارتنا وادياننا هي اثبات على ان العالم العضوي وحده يستطيع ان يحترم الحياة وان يحي الامال .

 

ان المركز الاسلامي الذي اسسه وبناه وحوله الى صرح لرسالة الاسلام صاحب الفضل العلامة المرحوم محمد جواد شري يستطيع ان يكون مركزا" لادارة حوار حضاري حول مختلف العناوين الفكرية ، ومن اجل اثبات اننا ضحايا الفكر الاستيطاني وضحايا الارهاب وضحايا الاسلحة الفتاكة والمحرمة دوليا" واسلحة الدمار الشامل .

 

ان ما نريده منكم من اجلنا ومن اجل شعوب الارض والشعب الاميركي على وجه الخصوص ان لا نقع ضحايا التضليل والخداع وتمويه النوايا .

 

نحن لا نطلب الكثير ، اذا كنا في الواقع قد تعلمنا من سماحة العلامة الراحل الجلد والصبر ، واذا كنا مصممين ان نعود عاما" بعد عام الى المنابع التي نهل منها الاصول والمعاني والتي اخذت بيده نحو ذلك العالم البعيد من اجل ان يكون للمسلمين مركزا" مرموقا" في كل مكان .

 

وككل عام وفي الذكرى السنوية لرحيله نسأل الله ان يتغمده بواسع رحمته وان يُمكّن ابناءه ورعيته من ايصال كلمة الحق وان يوسع عليهم وان يوفقهم في اعمالهم لما فيه خير البلاد التي استضافتهم وخير وطنهم الام .

 

                                           رئيس مجلس النواب     

                                                نبيه بـّري